أظهرت الفعاليات التي أعقبت مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، سلوكا منحرفا أخلاقيا ووطنيا وغوغائية سياسية لا نظير لها كل ذلك عكس مدى التغلغل الإيراني سياسيا وعسكريا وأمنيا واقتصاديا في الساحات العراقية والسورية واللبنانية وغزة واليمن، بحيث أقيمت لسليماني المآتم والمناحات التي تَبرَعُ إيران في استغلالها على أكمل وجه وتسخّيرها لتحقيق الأهداف التي عمل سليماني من أجلها، والتي تتلخص في إرساء أركان الإمبراطورية الفارسية الجديدة بحدودها الهلامية القابلة للتوسع حيثما توفرت لها فرص التوسع، وإذا أغفلنا مظاهر الحزن الزائف بل والمنافق الذي أظهره من أقام مجالس العزاء في تكريت والفلوجة وغيرها من المدن التي نعرف أنها استبشرت بمقتل سليماني، وحاولنا مع ذلك تحليل دوافعها الحقيقية فإننا سنجد نفوساً مجبولة على النفاق وانتهاز الفرص إما بهدف كسب المال من دون وجه حق وإما من أجل وجاهة فارغة لمن نافق برخص فارسل رسائل التعزية أو أقام مجالس التعزية.
وقد لا تعنينا خطب الرثاء والبكائيات التي أطلقها حسن نصر الله أو إسماعيل هنية، لأنها صادرة عن عبيد أذلاء عبروا عن حزن عميق أو منافق لفقدان وليِ نعمتهم، ولكن ما يلفت النظر هو ذلك العويل والصراخ ومهرجانات الذل والتبعية والشعارات والهتافات السُوُقية التي أطلقتها عناصر جاءت من الأزقة المظلمة فتبوأت مواقع المسؤولية في العراق بعد 2003، تلك الممارسات الموغلة في التبعية التي صدرت من عناصر المليشيات التي تجمعت أمام السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء التي ظلت مغلقة بوجه متظاهري انتفاضة تشرين الأول/ اكتوبر لأكثر من شهرين ولكنها فتحت بقرار من الطرف الثالث الذي تنسب إليه كل الجرائم التي أدت إلى مقتل أكثر من 700 عراقي وجرح حوالي ثلاثين ألفا من بينهم خمسة آلاف يعانون من عوق نتيجة الاصابة، أو تلك التي صدرت تحت قبة البرلمان المزيف في العراق المحتل، إذ ارتفعت فيه شعارات تمجدّ سليماني حتى ظن من استمع إلى تلك الشعارات أنه يستمع إلى نقل من داخل مجلس الشورى الإيراني، لولا أنه اقتنع أن الأمر عراقي لأن اللغة التي سادتها هي العربية حتى وإن خالطتها اللكنة الفارسية، ومرجع الدهشة وإجراء المقارنة بين حالة برلمان العراق المزيف وكلمات نصر الله وهنية، أن الأخيرين كانا متسولين على باب سليماني وسيده، في حين أن معظم ميزانية إيران في زمن العقوبات الاقتصادية الأمريكية، تتم تغطيتها من خزينة العراق المنهوب من إيران ومن عملاء إيران الذين نصبّتهم حكاماً عليه.
هذا واقع مرّ ومع ذلك يطرح أسئلة أكثر مرارة عن العوامل التي تربط عملاء إيران سواء كانوا أشخاصا أو منظمات بمركز صنع القرار في طهران ونحاول إيجاد إجابات معقولة عنها.
لم يسبق أن سُجّل خروجُ فصيلٍ أو تنظيمٍ شكّلته إيران أو تم تشكيله بأمر منها، “ليس بعد وصول خميني إلى السلطة عام 1979” بل حتى في عهد الشاه السابق، عن إرادة طهران سواء كان الأمر في قصر نياوران الشاهنشاهي أو في حسينية جمران بعد وصول خميني إلى السلطة فيما بعد، أو على سلطة علي خامنئي بعد موت خميني عام 1989، على أي مما ترسمه طهران لها من برامج وتوجهات سياسية وفكرية، أو ما تفرضه عليها من قناعات وعقائد مذهبية أو سياسية.
ذهب كثير من مراقبي الدور الإيراني إقليميا ودوليا، إلى تفسير الحالة على أنها استنساخ لعمل الحركة الماسونية أو منظمات التجسس أو عصابات الجريمة المنظمة مثل المافيا أو عصابات تهريب المخدرات، التي تلجأ إلى تصفيةِ أو تسقيطِ كل عنصرٍ يخرجُ منها أو عن توجهاتها أو تعرف أنه يفكر بذلك، سياسيا أو جسديا في معظم الأحيان، ولكن الأمر مختلف على الأقل من الناحية الشكلية، بين سلوك الدول وسلوك الأفراد والمنظمات والجماعات، ولكن أن يتشابه السلوكان في أكثر من نقطة فالأمر يستدعي تفسيرا معقولا.
فارس (إيران) اعتمدت ولو من حيث المظهر، التشيّع على وفق المذهب الجعفري الاثني عشري، منذ وصول إسماعيل الصفوي إلى الحكم بعد عام 1500 واعتماده منهاجا دمويا في غاية التطرف لتثبيت أركان ملكه، منذ ذلك الوقت اعتبرت فارس نفسها الممثل الوحيد لشيعة العالم والناطق المعبّر عن وجهات نظرهم وترفض التنازل عن هذه الوصاية المفروضة، وكانت تنّصب رجال الدين الذين يمثلونها في العالم أو يقودون المرجعيات، فتم استحداث الرتب والدرجات في هذا الوسط الملتبس الذي يغري الكثير من المتطلعين للنفوذ والمال، فاندفع الآلاف للانخراط في ما يسمى بالحوزات العلمية لدراسة أصول الفقه الجعفري على وفق رؤيا تمت صياغتها بما يناسب رؤية سلطة الصفوي ويحقق تطلعاته، وكانت عيون الجميع ترنو بشغف وبمنطق إقصاء المنافسين نحو لقب المرجع الأعلى للشيعة في العالم بما يجعل من سلطته الدينية سلطة مماثلة في كثير من مفرداتها ما كان يجتمع لبابا الفاتيكان في القرون الوسطى، كما أن المرجع ستلتقي عنده أموال الخُمس وسائر الأموال التي تتم جبايتها طوعا أو كرها من جيوب المكلفين الفقراء الذين تصور لهم العملية أنها الطريق إلى الجنة، من قبل ممثلي المرجع أو المراجع الأقل منه شأنا والمنتشرين حيثما وجدت أقلية شيعية في العالم، ليس هذا فقط بل أن الصفويين فتحوا أول صفحة من الصراع الطائفي الدموي في العالم الإسلامي سواء في حروبهم الخارجية أو في تعاملهم مع الداخل، راح ضحيته أكثر من مليون سني في مختلف أقاليم إيران اليوم واعتماد سياسة فرض المذهب الجعفري بقوة السيف، فصار أسلوب الإكراه طريقا مقدسا لإرغام أتباع المذاهب الأخرى على التحول إلى التشيّع وتخييرهم بين القتل أو قبول التشيّع، ولا شك أن التشيّع حصل على قوة دفع كبيرة عندما صارت هناك دولة بكل مؤسساتها وثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري تمثله في بيئة إسلامية تنتمي إلى المذاهب الأربعة.
وابتدع الصفويون للتشيّع طقوسا وممارسات مختلفة تماما عما عرفه الإسلام منذ بزوغ فجره في بداية الرسالة المحمدية، اقتبسوها من اليهودية والمجوسية والنصرانية وأضافوا إليها المآسي ما ينتزع الطمأنينة والتآلف ويزرع بذور الكراهية والعنف، واعتمد التشيّع على المناسبات الحزينة والبكائية، وبالغ في أشكال التعبير عنها وحرص على تكريس كل جديد ومبتدع من إيذاء النفس وإضافته إلى المتوارث سنة بعد أخرى، وتساهلوا في الفروض والأصول، كل هذا من أجل تجييش مشاعر التماسك الشيعي مع مركز التشيّع في إيران من جهة وتحشيد الطاقات البشرية عن طريق تعطيل المدارك العقلية وإطلاق العنان للعواطف المنفلتة، لمنح الشيعة حالة التميّز عن غيرهم، وحفر خنادق العداء مع أتباع المذاهب المخالفة أو الدول التي تعتمد منهاجا غير التشيّع، عبر استنهاض أجواء الكراهية والعداء بالتركيز على قصص تم حبكها في روايات ثم نسبتها إلى واحد من الأئمة الاثني عشر، عن خصومات ومؤامرات حيكت ضد ائمة أهل البيت.
ولنأخذ أمثلة كثيرة عن المنظمات والأحزاب التي اعتمدتها إيران لتكون أذرعا لها والتي تشكّلت في عهد الشاه محمد رضا بهلوي في العراق بشكل خاص على الرغم من أنها كانت لها امتدادات في ساحة الخليج العربي، مثل حزب الدعوة أو منظمة العمل الإسلامي، وهما منظمتان تأسستا بأمر من شاه إيران وبتدخل مباشر من جهاز الاستخبارات الإيراني السافاك، وكان القصد من تأسيسهما العمل ضد نظم الحكم في العراق بصرف النظر عن لونها أو توجهاتها، وفعلا نجح الشاه في تسخير هاتين الحركتين لا سيما حزب الدعوة في تجنيد الجواسيس للعمل لمصلحته ضد العراق مستغلا فكرة التشيّع لتحقيق ذلك، ويمكن لدارس تاريخ الحركات المسماة إسلامية ومرتبطة بإيران، أن يلاحظ أن خميني كان ينظر باحتقار شديد إلى حزب الدعوة منذ وصوله إلى الحكم وحتى موته عام 1989، وعلى الرغم من ظروف الحرب فإن خميني حرص على عزل هذا الحزب الذي أذل نفسه في تقديم رسائل العشق له وفروض الطاعة والولاء لقيادته، وإن كانت مؤسسات الحرس قد جندت حزب الدعوة في عمليات داخل العراق أو في الساحتين اللبنانية والخليجية.
عندما وصل خميني إلى السلطة عام 1979، نشّط مكتب شؤون الحركات الثورية، والذي أُنيطت مسؤوليته أول مرة بهاشمي رفسنجاني رجل خميني المدلل، في دراسة كل الأفكار المستلّة من ملفات السافاك لتشكيل منظمات عقائدية على أسس طائفية مستبدلا أسلوب التعامل مع الجواسيس بالمنطق الولائي العقائدي، من أجل إحكام السيطرة عليها وتسيّرها على السكة الإيرانية، فبعد أن تم تهميش حزب الدعوة وركنه في معسكرات في الأحواز مما اضطر كثير من قياداته للجوء إلى سوريا، قرر خميني تأسيس “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” عام 1982 ووُضع على رأسه شخصٌ إيرانيٌ هو محمود هاشمي شاهرودي وهو الذي أصبح بعد سنوات قليلة رئيسا لمجلس القضاء الأعلى في إيران، نعم صار شاهرودي رئيسا للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بأمر مباشر من خميني في تشرين الثاني 1982، وأعلن المجلس المذكور البيعة لولاية الفقيه التي تعدّ شرطا لقبول الحركات الموالية لإيران، ليحل هذا التنظيم محل الأحزاب التي تشكّلت في عهد الشاه، واستقطب هذا التنظيم عددا كبيرا من العناصر الانتهازية ومحترفة الإجرام التي انشقت عن حزب الدعوة، أو من العناصر الساقطة من بين صفوف الأسرى العراقيين خلال سنوات الحرب فكان طريقهم للتعبير عن ولائهم للخميني ممارسة أسوأ ما عرفته معسكرات أسرى الحروب في العالم من وحشية.
لكنّ عين خميني امتدت إلى ساحات أخرى ولم يتوقف عند العراق، فكانت الساحة اللبنانية أكثر الساحات العربية ملائمة لبدء النشاط التوسعي الإيراني، نتيجة لما أفرزته الحرب الأهلية اللبنانية من توازنات سياسية قلقة تم تكريسها في اتفاق الفرصة المتاحة وهو اتفاق الطائف الذي أنهى تلك الحرب، ومن أجواء ديمقراطية نسبية لم تحجبها ظروف الحرب الأهلية، فتم تشكيل “حزب الله” اللبناني الذي أكد ولاءه لإيران وولاية الفقيه على نحو يفوق ما هو حاصل في إيران نفسها، ونجحت إيران في تحسين وضعها التفاوضي في كل الأزمات التي صادفتها، من دون أن تترتب أية مسؤولية جنائية أو قانونية عن الجرائم التي ارتكبتها مليشيا حزب الله في لبنان أو خارج لبنان في إطار تخطيط محكّم كان يتم وضعه في طهران من قبل وريث السافاك أي قاسم سليماني، بما في ذلك ما حصل للسفارة العراقية في كانون الأول/ديسمبر 1981 واختطاف دبلوماسيين عاملين في الساحة اللبنانية من أجل مقايضتهم بمواقف سياسية لبلدانهم إلى جانب إيراني التي كانت تخوض حربا مستعرة ضد العراق في ذلك الوقت.
قد يحصل انشقاق في أي حزب أو حركة مما أسسته إيران، ولكن يبقى الولاء لإيران هو الثابت في كل المعادلات المتحركة، بل إن جميع الأطراف المنشقّة أو تلك الباقية في التنظيم الأصلي، تتبارى في عرض ولائها لإيران وتخوض معارك تصل حد التخوين فيما بينها، مما يتيح لإيران تسخير جميع الأطراف في خطط تنفيذ برامج إيران التوسعية التي رسمتها بألوان زاهية تحت شعار تصدير الثورة.
ومن بين الأساليب التي اعتمدتها إيران خميني لإحكام السيطرة على التنظيمات التي أسستها، أنها كانت بين آونة وأخرى تحتضن عمليات انشقاق داخل تلك الحركات واللافت أنها تقدم الدعم السياسي والمالي لكلا الطرفين على قدم المساواة، وهذا السلوك يعكس خشية الزعامة الإيرانية من انتفاخ أو شعور خفي أو ظاهر لدى زعماء تلك التنظيمات بحيث قد يستشعرون بأنفسهم القدرة على استقلالية القرار السياسي، فيضع التابع البديل ملوحا به بوجه من يظن في نفسه القدرة على التمرد على ولي نعمته، وكما تشق إيران التنظيمات المرتبطة بها والطفيلية عليها، فإنها تلجأ إلى سلوك مضاد، فترغم الخصوم على الالتقاء مرة أخرى إذا رأت أن ذلك هو الطريق الضامن لمصالحها، ولنأخذ مجريات ما جرى في العراق بعد مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وسنرى أنها تجسد أسلوب إيران المراوغ ليس في علاقاتها الدولية وإنما حتى في علاقاتها مع عملائها.
2٬552