يوميات مسافر على طريق أحمر

الجزء العاشر

قضاء جائر وحكم هزيل

يوم الثلاثاء 28/ 12 لم يبق من عمر العام الميلادي 2004 سوى ثلاثة أيام، ثم نودع عاما ذاق فيه العراقيون مرارات متلاحقة لم يذوقوا أمرّ منها من قبل، ولكنهم قد يذوقون ما هو أمرّ منها في قابل الأيام والأشهر والسنين، فبلدُنا مكتوبٌ عليه ألا يستقرَ ولا يذوق طعم الطمأنينة والأمن، وكأن هذه البقعة من الأرض اختيرتْ لاختبار صبر من يسكن فيها وجلدهم، ولهذا يسأل كثير من العراقيين “هل هي إرادة الله سبحانه أم إرادة شر اجتمعت عليه قوى دولية التقت مصالحها مع دول الجوار الشرقي والجنوبي على منع العراق من الاستقرار والراحة”؟ ولأن هؤلاء الأغراب استطاعوا شراء ذمم قوى محلية وضمائر أصحابها بثمنٍ بخس، فتحولوا إلى أدوات بيد الشيطان، وتنطق بأصوات سادتها، وأذرعٍ يحركها أولياءُ نعمتها كما يريدون لتدمير كل ما يُبنى في بلدهم.
وفي هذا العام كانت الفلوجة “جوهرة العمل العراقي المسلح المقاوم للاحتلال الأمريكي، قد شهدت في العام الثاني للاحتلال أي 2004، معركتين ضاريتين الأولى من 4 نيسان إلى 1 أيار/ مايو، والثانية من 7 تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 23 كانون الأول/ ديسمبر من ذلك العام”، وسجل العراقيون أثناءها، أن الحزب الإسلامي الشريك الرقمي في العملية السياسية التي صممها الأمريكيون، أراد أن يتاجر بدماء أبناء المدن السنية للحصول على دور أكبر ومغانم اضافية لأنه كان منبوذا من الوسط الذي يزعم أنه يمثله، بل وحتى التحالف الشيعي يحتقره ويعتبر سلوكه نفاقا سياسيا رخيصا، أما المحتلون فهم يتعاملون مع من يتعاون معهم لاحتلال بلدانهم كبائعات الهوى تكتفي واحدتهن بثمن ليلة ماجنة.
ولتحقيق هذه الصفقة السيئة تم تكليف حاجم الحسني القيادي في الحزب المذكور، كوسيط بين أهالي مدينة الفلوجة وقوات الاحتلال، بعد أن وصل قادة القوات الأمريكية إلى استنتاج بأنهم يواجهون مدينة لا تنحني لأحد إلا أثناء الصلاة، وفعلا تحرك في المعركة الأولى وخذل الفلوجة وتسبب بخسائر هائلة لحقت بالمدنيين فيها وألحق بها دمارا مريعا.
استخدمت الولايات المتحدة في المعركتين، كل ما في ترسانتها من وسائل القتل ورسل الموت، ولكن الفلوجة كعادة رجالها، استبسلت ولقنت الأمريكيين دروسا مؤلمة وكبدت قواتها خسائر كبرى بعد هزائم منكرة ومريرة ستبقى مرارتها تحت ألسنتهم إلى الأبد وتذكرهم بتجربة هزيمتهم في هانوي قبيل رحيلهم الذليل من هناك.
لم يكن قادة جيش الاحتلال ليتصوروا يوما أن تواجههم مدينة الفلوجة بهذه الشجاعة، ومن دون أن تلقى إسنادا خارجيا لا من شقيق عربي ولا من صديق أجنبي، فما جرى في الفلوجة كان معارك شوارع من حي إلى حي ومن بيت إلى بيت بل ومن غرفة إلى أخرى، وما زال الأمريكان يتذكرون بمرارة وألم وحسرة، حي نزّال والحي الصناعي وحي الشهداء والحي العسكري، التي طال أمد القتال اياما بلياليها حتى اصطبغت شوارعها بلون الدم وتناثرت جثامين الشهداء التي تم دفنها في الحدائق المنزلية أو العامة، وجثث قتلى الغزاة من دون أن يجرؤ زملاؤهم على إخلائها.
قبل انطلاقة المعركة ظنت قيادة القوات الأمريكية أن الفلوجة لن تحتاج إلى أكثر من فوج من قوات المارينز، ولا إلى أكثر من ساعة لتلتهمها لقمة واحدة، ولما استعصت عليها لم تترك سلاحا محرما في القوانين الدولية إلا وجربته على رؤوس أبنائها، وكانت صور المعارك تنقل لنا صور قنابل الفوسفور الأبيض المحرم دوليا، الذي لم تتردد الولايات المحتدة عن استخدامه لقهر إرادة رجال المقاومة في الفلوجة في أبشع ما تكون وحشية المحتلين، وسيبقى العراقيون يذكرون أن معركتي الفلوجة الأولى والثانية قد تم تسجيلهما باسم إياد علاوي رئيس الوزراء الذي عينته سلطة بول بريمر بهذا المنصب، والذي تحملت حكومته وزرهما، على الرغم من أن تلك الحكومة ليست أكثر من ساعي بريد صغير في مكتب بريمر.
لم يسأل أحد من المراقبين الدوليين نفسه، عما كانت هذه الأسلحة المحرمة، محرمة على الولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى التي صاغت القوانين على مقاساتها وفرضتها على الغير؟ أم أنها محرمة على الدول الصغيرة فقط والتي لا تستطيع حتى إبداء رأي في المحافل الدولية أثناء التصويت على تشريع القوانين المحددة لسلوكها فقط؟ أم أن في القتل سلاحا نظيفا وآخر محرم؟
كما شهدت مدن عراقية أخرى معارك كثيرة وبدرجات متفاوتة من الضراوة، فقد هاجم الأمريكيون مدينة سامراء في الأول من تشرين الأول/أكتوبر من عدة محاور وأطبقوا عليها وبعد معارك شرسة مع رجال المقاومة الوطنية تمكنوا من الوصول إلى مركز المدينة أي في منطقة المزار، وفي ذلك العام شهدت مدينة النجف عام 2004 أيضا معركة من نوع آخر بين أطراف شيعية متنازعة فيما بينها، في حينها تضاربت أسباب اندلاع المعارك، فقد ذكرت عناصر محسوبة على جماعة الحكيم “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي أسسه محمد باقر الحكيم في طهران في تشرين الثاني عام 1982″، أن نزاعا نشب من أجل السيطرة على خزائن مرقد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومفاتيح المزار للسيطرة على المداخيل اليومية التي تضخ في الضريح، من أجل إزاحة أي طرف شيعي يسعى للاستحواذ على هذه الثروة الكبيرة، وقد اتهَمَ المجلس الأعلى، التيار الصدري بإثارة الأزمة التي أدت إلى سفك دماء كثيرة، ولأن عبد العزيز الحكيم كان عضوا في مجلس الحكم الانتقالي ومقرباً من الأمريكان، فقد انحاز الأمريكيون ومعهم حكومة إياد علاوي إلى جانب المجلس الأعلى، ودفعَ أبناءُ النجف ثمن صراع مفاتيح المزارات وخزائن الضريح المليئة بالمقتنيات الثمينة بل لا تقدر بثمن، ولعل معركة النجف هي الصفحة الوحيدة التي يتاجر بها شيعة السلطة ويحاولون تصويرها على أنها مقاومة للاحتلال الأمريكي.
وفي عام 2004 شهدت سجون الاحتلال الأمريكي وخاصة سجن أبو غريب، انتهاكات مروعة ومورس فيها أسوأ أساليب التعذيب الجسدي والنفسي بأوامر منهجية من الرئيس الأمريكي جورج بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، ولو لم تعرض في شبكة سي بي إس الأمريكية يوم 28 نيسان 2004، تفاصيل تلك الانتهاكات لبقيت تلك الوقائع طي النسيان، ولبقيت أطراف العملية السياسية تدافع عن إنسانية المحتلين ووحشية العراقيين الذين يتصدون لهم.
وألحقت هذه الفضيحة أذى كبيرا بسمعة الولايات المتحدة، دفعت وسائل الإعلام الأمريكية لمتابعة ملف حقوق الإنسان في سجون القوات الأمريكية في بوكا وكذلك معتقل غوانتانامو في القاعدة البحرية الأمريكية في كوبا.
كنت أراقب الأحداث عن كثب وأغطي بعضها من خلال عملي الصحفي وظهوري على بعض الفضائيات العربية أو الناطقة بالعربية كمحلل سياسي، مع أنني كنت أنتظر موعد السفر إلى الولايات المتحدة لمتابعة ملف الشهيد زيدون.
وأخيرا جاء يوم السفر إلى أمريكا في الثامن والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 2004، فأخذنا سيارة إلى المطار، وكانت في كل مرة تتجدد مشاعر القلق عند جميع أفراد عائلاتنا والأقارب في بغداد وسامراء، وتتجدد مخاوفهم من احتمالات الغدر الأمريكي بنا، لأن التجارب السابقة لا تدع مجالا للاطمئنان بين الغازي وابن البلد، كنت أطمئن الجميع وأحكي لهم قصصا عن حسن معاملتهم لنا خلال مراحل التحقيق والسفر بل وكنت أبالغ في ذلك لمجرد بث روح من الأمل بحسن الخاتمة، طبعا كنت أقرأ في عيون الجميع شكاً بما أقول.
عند منتصف نهار يوم 28 كانون الأول 2004 كنا عند (جيك بوينت 1) في المطار، أنزلنا حقائب السفر وبدأ الكلب الأمريكي المدرب يؤدي دوره ويدور حول السيارة من دون توقف، وصلنا المقطع الثاني وفيه تفتيش من قبل أفراد (الحرس الوطني وهي قوة عراقية هزيلة شكّلها المحتلون لتكون لهم قفازا يضربون به العراقيين متى أرادوا) وتم التفتيش بآلية بليدة، شعرنا عندها أن كل شيء قد تم بسرعة حرصت على أن تبدو الإجراءات الأمنية مستوفية لشروطها الشكلية.
عند اجتيازنا لآخر نقطة سيطرة وجدنا واتسون بانتظارنا، تسلم حقائبنا وركبنا السيارة العسكرية الأمريكية المدرعة والتي أصبحت هدفاً ثمينا لرجال المقاومة العراقية الوطنية المسلحة، وعندما وصلنا قاعة الانتظار، وجدنا المئات من الجنود الأمريكان وهم يغطون في سبات عميق، منهم من استلقى على ما متوفر من كراسٍ ومنهم من ألقى بنفسه فوق حقائبه ومنهم من افترش الأرض وقليل منهم من وجد سريراً، يا لها من فرصة سانحة لحصاد عظيم لو أن قذيفة أو صاروخاً يسقط وسط هذه الجموع من القتلة والذين يُمكن رؤية دم العراقيين يقطر من بين أصابعهم، ولكن قليلا منهم من يشعر بتأنيب ضمير أو أسف لما ارتكب من جرائم، ونحن في هذه الخواطر والأفكار وإذا بالسرجنت واتسون يبلغنا بأن السفرة تأجلت إلى الغد، وبدم بارد كما يقتل الأمريكيون ضحاياهم قال لنا عودوا إلى بيتكم وتعالوا غدا صباحا، هنا تصطك المشاعر مع بعضها بقوة وتبعث أنينا مكبوتا لهذه الاستهانة بقيمة الإنسان والوقت، لم يعتذر عن هذا التأخير ولو أنه غير مسؤول عنه، لكننا افترضنا أن الأمريكي يحمل قليلا من الذوق وكثيرا من الوقاحة كي يكلف نفسه عناء الاعتذار، ولكن كيف جاز لي أن أفكر بهذا الأمريكي وهو الذي حمل آخر ما في ماكنته الحربية من أسلحة دمار ليجربها فوق رؤوس العراقيين، من دون احتجاج أو اعتراض أو حتى نقد من المنظمات المعنية ولو على استحياء، فأمريكا وضعت نفسها فوق القانون الدولي وفوق ميثاق الأمم المتحدة وفوق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفوق كل أجهزة الإعلام في العالم، وتعايش الأمريكي مع هذه الفرضية الساذجة واعتبرها حقا مقدسا له ليس من حق أحد أن ينازعه به.
كان علينا هذا اليوم أن نجتاز طريق المطار مرتين إضافيتين، ولهذا غادرنا المطار واتصلنا بالمنزل كي تحضر السيارة لأخذنا لعدم توفر وسائط نقل عامة تعمل بين المطار ومدينة بغداد، ولم يطل انتظارنا فقد حضرت زوجتي من دون تعب أو تذمر، وأعادتنا إلى المنزل على أمل العودة إلى المطار في الغد وهذا ما كان، وفي اليوم التالي أي يوم الأربعاء 29 /12 تكرر الانتظار عند نقاط التفتيش ولكن بصورة أسرع مما حصل بالأمس ولم نتأخر لتفتيشها من قبل الكلاب المدربة، فالحقائب بقيت في المطار، وربما حصل الأمريكيون على اطمئنان أكبر عن محتوياتها، وربما كان الهدف التعرف على ما في الحقائب من محتويات من خلال مضي الوقت من غير أن يحصل فيها انفجار مفاجئ، ومضينا إلى نفس الأماكن التي كنا قد مررنا بها قبل أربع وعشرين ساعة.
لا أحد يعرف موعد إقلاع الطائرة، والجنود الذين ألقوا بأنفسهم بهذه الطريقة فوق الأرائك وعلى الأرض لو لم يكونوا قد وصلوا إلى الحد الأخير من طاقتهم في مواجهة الموت والخوف منه، هو ما منعهم من النوم أياما وليالي، إذ كانت لحظة نوم واحدة تساوي العمر كله، نحن أكثر الناس طمأنينة وسط هذا الحشد المرتعب، كنا نتلفت وندعو بضراعة مع استعداد حقيقي لكل أسباب القوة لمواجهة قوات الغزو، ولم نكن نمتلك حقداً على واحد من هؤلاء الجنود كأشخاص ولكنهم كمشروع عدواني يستحقون كل ما يلحق بهم، هؤلاء الجنود الذين نعرف أنهم لم يأتوا من تلقاء أنفسهم وإنما بموجب أوامر قيادتهم العليا، لم يكن دعاؤنا مجردا من أدوات الفعل الميداني أن يزداد عدد قتلى مَنْ عبرَ المحيطات والبحار، ليقتل العراقيين ويدّمر بلدهم استجابة لأكاذيب خونة من حملة جنسيته ولم يحترمهم أحد لا الأمس ولا اليوم ولا غدا، وسيرجمهم الناس كما يرجم الحجيج موضع أبي رغال.
الطائرة ستقلع في الواحدة والنصف، هكذا قال واتسون، وقف البعض وظل كثيرون نياماً، فالطائرات العسكرية الأمريكية تقلع من مطار بغداد باتجاهات مختلفة، ولكن الموعد تأجل إلى الثانية والنصف بعد الظهر، ولكنها لم تقلع إلا في الثالثة والنصف.
هزت أربعة انفجارات متوسطة منطقة المطار المترامية الأطراف، من دون أن نتبين المكان الذي سقطت به القذائف أو ما هي طبيعتها وما تركته من آثار ولكن الأثر النفسي الذي يتركه أي انفجار في منطقة عسكرية أمريكية يفوق كثيرا حجم الخسائر المادية التي يُخلّفها، بدأنا التوجه إلى الطائرة المتوجهة إلى عمان هذه المرة بعد تجربتين مرتين مع الكويت، بدأت الطائرة تتحرك على مدرج الإقلاع توقفت عن الحركة فجأة من دون سبب، ثم دوى انفجار هائل أوشك أن يقتلع الطائرة الضخمة وهي من طراز C130 عن المدرج، ثم سارعت للإقلاع بسرعة استثنائية خشية من تعرضها لضربة مباشرة، وإذا بعمود دخان أسود يرتفع في السماء وكأنه ثمرة الفطر، وبدأت طيرانها اللولبي فوق المطار ثم أفلتت من جاذبيته باتجاه الغرب، أحسسنا أننا نقترب رويدا من الفلوجة لأن الطائرة أخذت ترتفع بصورة غير متوقعة وغير معهودة ولأن الضغط داخل الطائرة يتأثر بالخارج، فقد ظهر تأثير الصعود والهبوط واضحا على آذاننا، كل الذي حصل للطائرة أن قائدها ربما وصله من مركز السيطرة الأرضية إنذار بأن الخطر على الطائرة لا يقتصر على الأرض أو في منطقة المطار وإنما فوق سماء الفلوجة، نعم الفلوجة التي مزقت أرتال الجيش الأمريكي وأوصلته إلى سن اليأس المبكر، وأوشكت أن تدّمر حلمهم إلى الأبد لولا خيانة ما يسمى بـ”الصحوات” التي أسستها عقول عفنة رضيت لنفسها الحصول على فتات موائد الخط الأول من العملاء، ومع كل الحزن الذي يعتصرنا ونحن نذهب لمتابعة قضية زيدون، ومع كل ما يرافق العسكريين الأمريكيين من هلع نكاد نسمع وجيبه من بين الصدور، كنا نشعر بالفخر أن المقاومة العراقية المسلحة اليتيمة من كل دعم أو اسناد من قريب أو بعيد، كانت تُدخلُ في قلوب جنود أقوى قوة عسكرية عرفها تاريخ البشرية، كل هذا الفزع والهلع.
والطائرة تحلق عاليا وفي خطوة قلقة جاء جندي يحمل مصباحا يدويا بعد أن نقل له الآخرون أن رائحة حريق قد شمها بعضهم في الأسلاك الكهربائية المخفية وراء جدرانها، وبعد فحص دقيق أعطى إشارة الاطمئنان للركاب .
متى تنتهي متاعبنا نحن الباحثين عن الحقيقة والعدالة في بلد الظلم؟
بعد رحلة استغرقت ساعتين بدأت الطائرة بالهبوط في مطار ماركا في عمّان عاصمة الأردن، وبعد أن استقرت بنا الطائرة وانتقلنا إلى الصالة بدأت عمليات تفتيش الحقائب المرافقة، شك أحد رجال الكمارك الأردنية بأن أحد الجنود الأمريكيين يحمل في حقائبه ما يريب، فأمره بفتحها وإذا به يحمل الكثير من القطع النحاسية أو المذهبة من قصر الفاو، ولم يكن هذا الجندي وحده من يحمل مثل هذه القطع ولكنه كان أكثرهم جشعا وطمعا، وبعد مداولات واتصالات تمت تسوية الأمر، ثم وجدنا شخصا أردنيا يعمل مستخدما محليا في السفارة الأمريكية في عمان بانتظارنا وهو يحمل لافتة كتبت عليها أسماؤنا باللغة الإنكليزية، وأخذنا إلى فندق قريب من مطار الملكة علياء الدولي والذي يبعد عن مطار ماركا بعدة كيلو مترات، وربما تعود ملكية الفندق لشركة الخطوط الملكية الأردنية، وتوزعنا على الغرف وبعد استراحة قصيرة وأخذ حمام ساخن نزلنا إلى المطعم لتناول طعام العشاء، كان علينا أن نبيت ليلتنا مبكرين كي ننهض مبكرين، فالسيارة ستحضر في الثامنة صباحا والطائرة ستقلع في العاشرة والدقيقة الأربعين من يوم الخميس 30 /12 باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية.
استيقظنا مبكرين ومضينا إلى المطعم لتناول طعام الفطور بعد أن حزمنا حقائبنا، وجاءتنا السيارة في الثامنة صباحا ومضينا إلى مطار الملكة علياء الدولي على أمل أن تقلع بنا طائرة الخطوط الجوية الملكية الأردنية في الساعة العاشرة والدقيقة الأربعين، ولكننا علمنا بأن موعد إقلاع الطائرة قد تأخر ساعة واحدة على الأقل على عادة كل خطوط العالم الثالث الجوية من دون إبداء الأسباب.
في مواضع كثيرة من المطار شاهدت طائرات الخطوط الجوية العراقية ذات اللون الأخضر جاثمة على أرض المطار وكان العراق قد أخرجها من أراضيه قبيل العدوان الأمريكي البريطاني الثلاثيني عام 1991 ولكنها بالنتيجة تعرضت للموت البطيء تماما كما لو أنها ضربت بقذيفة قتلتها على الفور، كانت الطائرات كلها من نوع بوينغ ومن حجوم مختلفة فهناك الجامبو وهي طائرة بوينغ 747، وهناك بوينغ 707 وهناك من 737 و727 وهي تحكي قصة مأساة أكثر الخطوط الجوية في العالم أمانا في طيرانها لدقة الصيانة الدورية ومهارة الطيارين العراقيين، ولكنها وقد تحولت محركاتها إلى أعشاش للطيور لا بد أن تستدعي دمعة حزن وألم على ما آل إليه وضعها ووضع العراق بسبب الحصار الاقتصادي الظالم والعدوان الثلاثيني، ومحاولات إذلال العراقيين والنيل من إبائهم وشموخهم ومنع طائرهم الأخضر من التحليق، لم أطل النظر إلى تلك الطائرات الموزعة على المزاغل المفضية إلى مدارج المطار، فلم أرغب برؤية شيء عراقي تعمد الغزاة على إذلاله حتى ولو كانت طائرة مصنوعة في البلد الذي جيّش جيوشه لتدمير اسم العراق وحضارته وتاريخه وحذف اسمه من الخارطة، تحت عنوان نقل الديمقراطية وتطبيق حقوق الإنسان والفدراليات، ذلك المشروع الانفصالي اللئيم الذي يريد تهديم أعلى سياج عربي للأمن القومي وتشتيت قوته، دلفنا إلى صالة المطار وبعد وزن الحقائب والإجراءات الأمنية الدقيقة لفحص محتوياتها بأجهزة السونار، وتأشير تذاكر السفر مضينا إلى كابينة شرطة الجوازات والذين دققوا مطولا في سلامة تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة، ولما مررنا عبر البوابة المؤدية إلى الطائرة خضعنا لتفتيش دقيق جدا، فنحن ذاهبون إلى زعيمة العالم الحر والتي كانت ما تزال تعيش أكبر كابوس مرعب في حياتها اسمه الإرهاب الذي تصنفه على أنه عربي إسلامي سني منذ أحداث 11 /9/ 2001، والذي صنعته سياساتها العدوانية على كل شعوب الأرض حتى بات الأمريكي رديفاً للون الدم وعنوانا للتعذيب والقتل وكأنه حادلة تريد سحق كل ما يقف في طريقها، مررنا سريعا إلى الطائرة التي كانت من نوع أير باص 340 بأربعة محركات وهي الطائرة المخصصة للرحلات الطويلة، وفي الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين بتوقيت مكة المكرمة وبغداد تحركت الطائرة نحو مدرج الإقلاع، وبدأ قائدها بقراءة دعاء السفر والذي بعث في النفوس طمأنينة كبيرة والذي يقول (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون)، وقال قائد الطائرة إن الرحلة ستستغرق من عمان إلى شيكاغو حوالي أربع عشرة ساعة من دون توقف، ولاحظنا أن الطائرة عبرت فوق فلسطين وفي غضون دقائق شاهدنا الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى