14 ساعة في الجو للوصول إلى شيكاغو
السفر من الأردن إلى الولايات المتحدة زمنه طويل جدا ومرهق إلى أبعد الحدود، ومما فاقم من تعبه أن مقاعد الطائرة متقاربة على نحو يبعث على إزعاج وتعب وإرهاق أكثر، وهذا مما لا ينسجم مع طبيعة الرحلات الطويلة من جهة، ونوعية الطائرة من جهة ثانية لأن اتساع المساحة المخصصة للمقاعد تضيف أعباء على عموم الركاب ونوعية الخدمات المقدمة لهم وحتى عدد المرافق الصحية، وهذا يعود لرغبة شركات النقل العالمية في مزيد من الإيرادات وتحقيق ربح أكبر، ولو كان على حساب راحة المسافرين، والشركات المصنّعة غير مسؤولة عن تحديد عدد المقاعد، الأمر منوط برغبة الشركات الناقلة حصراً، إلا أنها يفترض بها أن تفرض مقاييس على شركات النقل عند تقديم طلبات الشراء، فهل يتحقق هذا في زمن التنافس غير المتكافئ بين الشركات المصنّعة للطائرات وهي معدودة على مستوى العالم.
الطائرات الحديثة نثرت شاشات على عدد مقاعد الطائرة لتخفيف وطأة الوقت عن المسافرين وخاصة في السفرات الطويلة، وبمجرد استقرار الطائرة في الجو تم إنزال الشاشات ليختار كل راكب ما يشاء من أفلام روائية عربية وأجنبية على وفق ما يرغب أو أية فعاليات فنية أخرى، أو يتم عرض رصدٍ الكتروني مستمر لسرعة الطائرة وارتفاعها عن مستوى سطح البحر ودرجة الحرارة خارج الطائرة، وخط الرحلة ومواعيد الاقلاع والهبوط.
على الرغم من طول الرحلة فإن الشركة الناقلة لم توفر ما يكفي من وجبات طعام للركاب في هذه الرحلة، فالطعام الذي وزعته المضيفات كان قليلا جدا، حتى أن الطائرة التي كان حوالي ثلث ركابها من الأطفال الصغار، كانوا يُلحون على آبائهم أو أمهاتهم بطلب المزيد من الأكل، ولكنهم لم يحصلوا على شيء أبداً، كما أن الأوامر لا تسمح للمسافرين بإدخال الطعام معهم إلى الطائرة.
لم يتوقع أحدٌ من الركاب أنّ طائرة تعمل بين الأردن والولايات المتحدة ستجوّع ركابها وخاصة الأطفال، لاسيما وأن سمعة الملكية الأردنية جيدة بين شركات الطيران الدولية، ولهذا أثار الأطفال ضجيجا اضافيا ومشروعا إلى مستوى الضجيج داخل طائرة “الأير باص” التي تأكد لي أنها لا تضاهي طائرة البوينغ الأمريكية وخاصة الجامبو، فأصوات محركاتها عالية جدا ولم تنجح تدابير العزل التي قامت بها الشركة المصنّعة من منع وصوله إلى المسافرين بقوة، ولهذا لم يتمكن معظم الركاب من النوم طيلة السفرة على كراهة مع أن التعب والنعاس كانا رفيقين معنا في عبور المحيط الأطلسي.
كان أعلى ارتفاع حلّقت فيه الطائرة فوق الأطلسي اثني عشر كيلومترا، وكانت درجة الحرارة خارج الطائرة في ذلك الارتفاع عند أدنى مستوى لها وهو 71 مئوية تحت الصفر، ووصلت سرعتها في بعض الأحيان 880 كم، وأخيراً وبعد رحلة مضنية استغرقت أربع عشرة ساعة، انتهى وقتها وبدأت الطائرة بالهبوط التدريجي في مطار شيكاغو في الثانية وعشرين دقيقة فجر يوم الجمعة 31 / 12 / 2004 بتوقيت بغداد ومكة المكرمة، وبعد توقف الطائرة ونزولنا منها توجهنا لتأشير جوازات سفرنا، وهنا بدأت متاعبنا الجديدة مع شرطة المطار، فقد ساورتها شكوك في صحة التأشيرات التي نحملها، هذا أمر طبيعي فنحن عراقيون، وأرضنا تشهد أسخن مواجهة مع القوات الأمريكية التي كانت أرقام خسائرها في تزايد مستمر، ويبدو أن لسان حال شرطة الجوازات يقول ماذا جاء بكم إلى أرضنا وأنتم تقتلون جنودنا؟ يضاف إلى ذلك أننا عرب ونحن في دائرة الاتهام حتى يتأكد الجميع من أننا لسنا ممنوعين من دخول أمريكا، ربما كان الشرطي يبحث لنفسه عن درع يحميه من أية مسائلة قانونية.
مع أن مرافقنا الأمريكي السرجنت واتسون تدّخل من أجل حل هذا الاشكال، إلا أنه فشل في تغيير قواعد العمل الصارمة في هذا المطار وكل المطارات الأمريكية، تأخرنا أكثر من ساعتين في انتظار لم نرَ له مبرراً، ثم مضينا إلى صالة الأمتعة وكان الحزام الناقل للحقائب قد توقف منذ ما يقرب من ساعة، بعد عثورنا على موقع أمتعة مسافري الملكية الأردنية صُدمنا لأننا لم نجد حقيبة مروان، سألنا عنها ولكننا لم نجد جوابا شافيا واستذكرنا الساعة التي غادرنا فيها مطار الملكة علياء في عمان، كانت حقيبة مروان متوسطة الحجم ويمكن حملها باليد، ولكن نقطة التفتيش قبيل الصعود على متن الطائرة، رفضت السماح له بحملها معه داخلها، ولهذا أنزلوها ووعدوا بإرسالها مع بقية الحقائب، ولكنهم لم يَفوا بوعدهم، لأنهم ارتابوا أصلا بالأسباب التي دعت مروان إلى حملها معه وعدم وضعها مع حقائبنا، ولذا وجدنا أن علاج الأمر يتطلب توفير ملابس بديلة لمروان لحين معرفة مصير حقيبته، وهذا ما حصل في أقرب المدن الأمريكية إلى قاعدة فورت هود.
في مطار شيكاغو كان علينا الانتظار عدة ساعات لنغادر إلى أوستن عاصمة ولاية تكساس بطائرة أمريكية، اللافت أن معظم الطائرات العاملة على الخطوط المحلية في الولايات المتحدة هي من الطائرات المروحية الخفيفة ذات المحركين، والتي لم تحذف من الخدمة على الرغم من دخولنا في الألفية الثالثة، ويعكس طياروها طبيعة الكاوبوي الأمريكية المغامرة أثناء الإقلاع والطيران والهبوط، ربما كان احساسنا هذا نابع من تعودنا عند سفرنا على متن الخطوط الجوية العراقية مع طياريها الذين ننظر إليهم على أنهم خيرة الطيارين في العالم، حتى عندما كانت مروحية من نوع فايكونت بأربعة محركات، أن الطائرة حين تهبط فإن الركاب لا يشعرون بذلك لولا مشاهدتهم لمدرج المطار ومنشآته، غير أن الطائرات ذات المروحتين التي تنقّلنا بها بين المدن الأمريكية، كانت تسقط ككرة من الهواء وتتقافز على المدرج عدة مرات قبل أن تأخذ مسارا عاديا على المدرج حتى تتوقف، وهذا يعكس استهانة الطيارين الأمريكان بحياة الركاب، وربما هو تعبير عن طبيعة الشخصية الأمريكية المغامرة أو الحنق على شركاتهم لأنهم ما زالوا يعملون على طائرات قديمة ومتخلفة بالمقاييس المعتمدة في عالم الطيران، لاسيما وأنهم ينتمون لبلد هو الذي اخترع أول طائرة وما يزال يصنع أفضل الطائرات في العالم.
حقا لم أكن لأتصور أنني سأرى هذا النوع من الطائرات المروحية في الولايات المتحدة وهي التي تنتج أحدث الطائرات النفاثة في العالم، ولكنني حينما رأيتها وجدت تفسيرا لجشع الشركات الرأسمالية فهي تريد استنزاف هذه الطائرات حتى الساعة الأخيرة من عمرها الافتراضي، وهي على العموم ذات كلف تشغيلية أقل من الطائرات النفاثة وهي طائرات لا تلقى منافسة في داخل البلاد وهي تستخدم للخطوط القريبة وربما أسعار تذاكرها أرخص من أسعار تذاكر الطائرات النفاثة.
في الساعة الثامنة وعشر دقائق بتوقيت مكة المكرمة أيضا من صباح السبت، أخذنا طائرة “أمريكان أير لاين” في سفرة إلى أوستن حيث وصلناها بعد ساعتين ونصف، وكانت الساعة تشير إلى الواحدة وأربعين دقيقة من فجر الجمعة بالتوقيت المحلي، علما بأن فرق الوقت بين أوستن ومكة المكرمة هو ثماني ساعات، ووجدنا سيارة عسكرية بانتظارنا في المطار وكان هناك مترجم اسمه ولسون بانتظارنا مع سيارة خاصة، وبعد استكمال الإجراءات تحركنا صوب قاعدة فورت هود العسكرية، واستغرقت الرحلة بالسيارة من مطار أوستن إلى القاعدة أكثر من ساعتين، وبعد سفر بين مطار وآخر استغرق أربعا وعشرين ساعة تقريبا، وجدنا أن التعب حد الإرهاق قد انتزع قدرتنا على المطاولة، وألقى كل منا نفسه على الفراش كجثة لا تعي ما حولها بانتظار الخطوة التالية.
فجأة انطلقت صفارات الانذار من سيارات الإسعاف والإطفاء، أفسدت علينا نوماً كنا بأمس الحاجة إليه، إذ كانت السيارات تزعق بلا توقف ليلة رأس السنة من دون أن نتبين سببا محددا لذلك، خرجنا من شقتنا إلى واجهتها الأمامية، وإذا بألسنة اللهب ترتفع عالياً في سماء مدينة كلين المجاورة لقاعدة فورت هود، وتحركت فينا الرغبة في معرفة ما يحصل في أقوى بلد في العالم في ليلة رأس السنة الميلادية، بلد بقدر ما نقدّر دوره في النهضة الحديثة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، فإننا نضمر له مشاعر الكراهية، لأنه بلد شن حربين على بلدنا في غضون ثلاثة عشر عاما جاءت الثانية بعد حصار ظالم فرضه على وطننا ودمر فيه أسباب الحياة، بلد يسعى لتدمير القيم الإنسانية بسرعة وإعادتها إلى الوراء بسرعة تفوق سرعته في التطور التكنولوجي، وربما لم نشعر بأسى للخسائر التي تتكبدها قواته في أي أرض تتعرض لغزوها، ومن أي قوة تواجهها سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، صحيح قد يكون في هذا النمط من التفكير تعبيرا عن عجز لأنه سلاح الضعفاء وفيه شماتة أكثر مما فيه من عزم المقاومة، ولكن الصحيح أيضا أن العراقيين لم يألوا جهدا في تحجيم دور أمريكا في العالم وتقزيمها، ولولا وقوف العراقيين الباسل بوجه ماكنة الحرب الأمريكية، لكانت جيوش الولايات المتحدة تنتشر في كثير من بقاع الشرق الأوسط، ويرتفع علمها على المقار السيادية في أكثر من عاصمة في المنطقة.
كنا على يقين بأن الشعب العراقي قاتل ببسالة ورجولة نيابة عن شعوب المنطقة بل عن الإنسانية، وجعل الإدارات الأمريكية المتعاقبة تفكر ألف مرة قبل أن تُقدم على مغامرة عسكرية جديدة، ومع ذلك فأكّف العراقيين ترتفع بالضراعة إلى الله سبحانه أن ينتقم من كل من كان سببا في ما لحق بهم من موت ودمار على يد الجيش الأمريكي، الذي نقيم (في ضيافته على كراهة وحزن ويعتصرنا الألم) الآن في أكبر قاعدة برية له في العالم على كثرة ما يمتلك من قواعد منتشرة على طول الكرة الأرضية وعرضها، سواء من كان هذا المشارك في ذبح العراق عربيا أو عراقيا أو أجنبيا، وهذه القاعدة هي التي دفعت إلى العراق الآلاف من الجنود القتلة لقتل العراقيين.
كما قلت كان هذا هو اليوم الأخير من عام 2004 والذي بدا لنا نحن الغرباء الثلاثة وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة ببطء شديد ووقعُ خطواته فوق صدورنا كان ثقيلا جدا، الليلة ستسهر مدن العالم وفي هذا الجزء من الكرة الأرضية، على أنغام الموسيقى الصاخبة حد الجنون وعلى أنغام الرصاص المنهمر من بنادق الغزاة بجنون أعظم ولكن في بلدنا وعلى أبناء شعبنا بهدف تركيعهم، لم نشعر بأسىً أننا فرضنا على أنفسنا إقامة إجبارية في الغرفة، فهذا هو شأننا حتى عندما كانت الأيام أنيقة ومترفة والليالي في العراق جميلة وجميلة أكثر من قدرة كثير من العراقيين على التحمّل والتخيّل، فالزمن الجميل لم يمكث إلا بعمر الربيع في العراق، لم يكن أحدنا ليفكر فيما خلا من الأيام بالبحث عن المكان الأفضل لقضاء الساعات الأخيرة من أعمار السنين التي مرت علينا، ثم ليبق في حالة انتظار حتى يتعانق عقربا الساعة ويعود الإنسان إلى بهيمته.
على العموم الآن بل ومنذ ساعات دخل العراق يوما حزينا جديدا في عام حزين من سنوات الاحتلال، وعجبنا لحالنا أننا جئنا إلى مركز العصابة التي قتلت ولدنا وسرقت أموالنا وما تزال تُفكّكُ كل ما بنيناه بتعبِ السنين وتضحيات العراقيين وأموالهم وتفعلُ في بلدنا كل مُنكر، لنسترد جزءً من حق ضاع كما ضاعت فلسطين، ولم يكن أمامنا إلا أن نُواصلُ خطانا التي بدأناها في العراق ونلاحق عدوٍ يعرف أنه يرتكب من الجرائم ما يُلحقُ عارا بقواته، ولكنه يستميتُ لنفيها عن نفسه مستعينا بكل ما هو متاح تحت يديه من إمكانات.
كان علينا انتظار انتهاء عطلة نهاية عام ولّى وعام أقبل والتي تزامنت مع عطلة نهاية الاسبوع، حيث ستصاب الحياة بالشلل التام في البلاد، وسنبقى ننتظر حتى بداية الأسبوع الجديد كي نشهد انعقاد جلسة المحكمة، وحينها سنعرف أين وصلنا بعد كل هذا الجهد الشاق الذي بذلناه خلال عام كامل من دون أن تلوح في الأفق حتى الآن بوادر تطبيق العدالة الأمريكية التي رأيناها كثيرا في أفلام هوليود، ولم نجد لها أثرا على الأرض لا في العراق وقبله في فيتنام وبعد ذلك في أفغانستان أو حيث وُجدتْ قوات أمريكية تحتل أرض بلد آخر، وما رافق تطبيقات العدالة الأمريكية المعصوبة الأعين في غوانتانامو وأبو غريب، وما يجري في فلسطين ومع شعبها بدعم ومظلة أمريكية بالمال والسلاح والإعلام، أو صمت أمريكي حتى تجددت الأسئلة القديمة وصارت ترتفع من جديد كلما أصابنا كدول وشعوب أو كأفراد بعض رذاذها.
نحن هنا في معركة قضائية علينا أن نستخدم مهاراتنا وخبراتنا الشخصية، فنحن نواجه عدواً مسلحا بالقوة وقدرة الغدر ويستند على خبرات متراكمة في مختلف المجالات وخاصة القانونية، وما يصلح في العراق وفي بلدان العالم الثالث لا يصلح في أمريكا، ومن قال إنه نجح في بلد أو مجتمع ما فلا يعني ذلك أنه سينجح في كل مكان؟
أمريكا جاءتنا غازية تحت شعارات براقة عن تصدير الديمقراطية الغربية إلى مجتمعنا الذي قد يحتاج إلى عقود طويلة ليتعامل مع ما يسمى بالديمقراطية ،فمجتمع ما زالت فيه الأمية سائدة وبأي قدر من المقادير، لا يستطيع اختيار ممثليه إلى الهيئات التشريعية.
الديمقراطية مثل شجرة، ما يصلح منها للمناطق المتجمدة لا يصلح للمناطق الحارة، على العموم هذه بركات الديمقراطية الأمريكية خصوصا والغربية عموما، التي وفرت أعلى مراتب الحماية للقتلة، متى كانت الديمقراطية المصممة على مقاسات الغرب قابلة للفرض على مجتمعاتنا بقوة السلاح؟ أم أن الديمقراطية أغنية جميلة للأمسيات الملونة من غير المتاح نقلها لبلداننا من الناحية العملية؟ وما قيمة الديمقراطية من دون احترام حقيقي لحقوق الإنسان وخاصة من أطراف نَصبّت نفسها كجهة مكلفة بتطبيقها على مجتمعات أخرى ونسيت ما يحصل داخل أرضها؟ ومن هو المخوّل بمراقبةٍ دقيقةٍ لتطبيقاتها على الجميع؟ هل هي المنظمات الدولية والإنسانية والدول الضامنة لها؟ أم هي القوى المحلية المعبرة عن إرادة الشعوب؟ هي أسئلة لا يمكن أن نعثر لها على جواب بين ما خلّفته حروب الغرب العدوانية على الدول النامية والعالم الثالث، وخاصة الوطن العربي الذي دفع أعلى التكاليف السياسية، جراء ركونه إلى الوعود الغربية التي كان يتأكد زيفها وخداعها في كل مرة.