يوميات مسافر على طريق أحمر

الجزء الثالث عشر

صدور الحكم القضائي

رَفعت المحكمة جلستها الثانية بعد أن استمعت لإفادات جميع أطراف الدعوى، إلى موعد يحدد لاحقا لإصدار قرار الحكم، عندما سألنا عن تاريخ انعقاد جلسة النطق بالحكم قالوا سنبلغكم في حينه، وسألنا هل سنبقى هنا لحين صدور الحكم؟ لم نحصل على جواب شاف فأمريكا سرٌ كبير ينطوي على كثير من التناقضات، فبقدر ما هي بلد مفتوح فهي بلد محكم الانغلاق، وبقينا نُلّح على عدم البقاء في القاعدة العسكرية معزولين عن العالم، ولأننا لم نعد نرى مبررا لبقائنا هنا لزمن أكثر مما تتطلبه جلسات المحكمة، فنحن “ضيوف” غير مرغوب فيهم من جهة وأشبه ما نكون بمعتقلين مشتبه بهم لتهمة غير محددة، ولم نكن نرغب بأن نظل “فرجة” للباحثين عن ظاهرة غريبة، ثم أنني عانيت عشرين عاما عندما تمسك الإيرانيون “بضيوفهم” أسرى الحرب العراقية الإيرانية فهل مكتوب علي أن أعيش “ضيفا” في الولايات المتحدة.
في قاعدة فورت هود على اتساعها وكونها مدينة مصغرة، لا نستطيع الخروج من بواباتها الرئيسية إلا بموافقات مسبقة يجب استحصالها من قيادتها، ولا نستطيع الدخول إليها إلا بموافقات أكثر صعوبة، فمن الذي يؤمّن لنا تلك الموافقات؟
بعد ذلك اتصل بنا واتسون وقال إنه أجرى اتصالات مع مراجعه ونقل لهم رغبتنا بالعودة إلى العراق ووعدوه بدراسة الأمر ولكنه لم يقل أكثر من هذا، ولمّا ألححنا عليه قال حسنا سنغادر قريبا بعد أن نستكمل تدابير الحجز على الطائرة ففي الأمر نفقات يجب صرفها من قبل الجهات المعنية؟.
مررنا بحالة انتظار مفتوح الزمن وكان المسؤولون يتعمدون الغموض في هذا الملف، ولكن ماذا ترانا سنفعل في هذه القاعدة العسكرية المغلقة، هل نمارس رياضة المشي في طرقاتها؟ أم نظل على حالنا في غرفنا لمشاهدة التلفزيون الذي لا هم له إلا ملاحقة تسونامي إندونيسيا؟
من دون سابق إنذار ومن دون أن نعرف تفاصيل ما جرى ومن دون أن نُدعى لحضور جلسة النطق بالحكم، أصدرت محكمة فورت هود العسكرية، حكماً على السرجنت ترسي بيركنز حكما بالحبس ستة شهور وحرمانه من حقوقه التي ضمنها له القانون العسكري الأمريكي، مرّ الحكم من دون أن نعلم به من أي مصدر، ولكن ظل جرس التلفون “الموبايل” يضرب بلا توقف من لندن بعد أن أذاعت الخبر شبكة CNN وبتفصيل عن ملابسات القضية وظروفها وتناقلته عنها وكالات الأنباء العالمية، ربما كانت هذه أول قضية جنائية كان عراقي ضحيتها، تُوبعت بهذه الجدية حتى صدر فيها قرار حكم قضائي، على الرغم من أن القرار كان هزيلا إلى أبعد الحدود.
في يوم صدور الحكم اتصل بي كل من الزملاء أسامة الصالحي وهارون محمد وسيف الدوري وماجد السامرائي، وكانوا على اتصال مستمر معي منذ وصولنا إلى فورت هود، لمتابعة الملف فهم يرونه قضيتهم كما هي قضيتنا، لم يألوا جهدا في إيصال المستجدات عبر قنواتهم إلى أي منبر يصلون إليه.
كما اتصل بي المرحوم صباح البازي من بغداد وكان حينها مراسلا نشطاً لوكالة رويترز البريطانية للانباء، والذي تابع القضية في مجموعة متصلة من الأخبار والتقارير، بحكم معرفته السابقة بتفاصيل ما وقع وجعل من تلك المعلومات خلفية (باك راوند) للقصة الإخبارية التي قدمها للوكالة التي يعمل فيها.
وأطلعني الجميع على حيثيات الحكم وتفاصيله الكاملة، لاننا كنا مقطوعين عن مصدر الخبر على الرغم من اننا كنا على بعد خطوات معدودات عنه، ومع ذلك كانت الاخبار تصلنا من أوربا.
كما أن بعض الفضائيات اتصلت بي لإخذ تعقيبات على ما حصل في الأيام السابقة وقرار الحكم المفاجئ لنا، دُهشنا من هذا التطور والحكم المثير للسخرية والحزن في وقت واحد، وطلبت من الأصدقاء الذين اتصلوا بنا بمتابعة الموضوع سواء بمعرفة التفاصيل أو الحديث عن هذا القرار الجائر، مجرم قتل مواطناً بدم بارد ويُعاقب بالحبس ستة أشهر، يا لها من عدالة دولة صدّعت رؤوسنا من كثرة ضجيجها عن حقوق الإنسان وحكم القانون، وتحدثت لقناة ANN، عن هذا الحكم البائس وطالبت بممارسة اعلى درجات الضغط اعلاميا على الإدارة الأمريكية من أجل أن تؤكد مصداقيتها فيما تطرحه من شعارات، نحن نعرف أن هذا غير ممكن أصلا ولكننا كنا نريد أن نفضح أمريكا أمام الرأي العام العالمي ونحاول أن نوجه رسالة إلى الشعب الأمريكي عن طبيعة الجرائم التي ترتكبها قواتها في العراق.
في اليوم التالي جاءنا أحد المحامين وكان مرتاحاً لقرار الحكم واستغرب أننا كنا غاضبين جدا، حاول التخفيف عنّا فقال (هل تعلمون ماذا يعني الحكم بالحبس ومهما كانت مدته على عسكري؟ وهل تعلمون أن القرار حطّم حياة بيركنز؟ وهل تعلمون أنه حُرم تماماً من كل حقوقه المالية وكل ما كان يحصل عليه من ضمان صحي وفرص دراسية على حساب الجيش؟ وهي الحقوق التي كفلها له القانون العسكري طالما كان في الخدمة وبعد تقاعده منها؟ وهل تعلمون أن هذا العسكري بعد خروجه من السجن سوف يجد صعوبة في الاندماج بالمجتمع؟)، ما أكثر التساؤلات التي طرحها المحامي “وهو كما قلت عسكري انتدبته المحكة للدفاع عن حق ذوي الضحية” عن المستقبل المظلم لكل من يتعرض لحكم قضائي وخاصة من القضاء العسكري، ولكن ذلك ليس هو ما كنا نريد، نعم لم نكن نتوقع حكما بالإعدام على القتلة، ولم نكن نتوقع حكما بالمؤبد، ولكننا كنا نتطلع إلى حكم آخر غير ما صدر ومهما كانت مدته ليؤكد مصداقية العدالة الأمريكية، ولكن الحماقة الأمريكية تأبى إلا أن تعزز من قناعتنا الراسخة بأن أمريكا كيان متجبر وغاشم في عدوانيته وأنه يستحق ما يلقاه من كراهية من شعوب الأرض، لم نقتنع بقرار الحكم، ولم نقتنع كذلك بمحاولات تسويقه من قبل المحامي، ولهذا أعددنا لائحة لاستئناف قرار الحكم ودفعناها إلى المترجم والذي رفعه بدوره بعد ترجمته إلى هيئة المحكمة، مع أننا كنا على يقين بأن قرار الحكم قطعي ولن يتغير وإذا أريد له أن يتغير فربما سيذهب للتخفيف وليس التشديد، ولا نعرف فيما إذا كانت أحكام المحاكم العسكرية تقبل الاستئناف أم لا؟.
يوم الأحد 9/ 1/ 2005 أبلغَنا السرجنت واتسون بأننا سنغادر أمريكا في طريق عودتنا إلى العراق صباح اليوم التالي، وفعلا جاءنا واتسون صباح الاثنين ونقلنا من القاعدة إلى مطار مدينة كلين القريبة من فورت هود، ومن هناك أخذنا طائرة صغيرة من ذوات المحركين كالعادة لتأخذنا من مطار كلين إلى مدينة مطار دالاس عاصمة ولاية تكساس، والذي وصلناه بعد طيران استغرق خمساً وثلاثين دقيقة فقط، وتنقلنا في أرجاء المطار بواسطة العربات الخاصة من مبنى إلى آخر وكذلك بالمصاعد الكهربائية، حتى وصلنا الصالة التي تفضي بنا إلى الطائرة التي تقلنا إلى ديترويت، وبعد ثلاث ساعات من الانتظار في المطار أخذنا واحدة من طائرات شركة أمريكان أير لاينز، وتوجهنا إلى ديترويت، ومنها إلى أمستردام العاصمة الاقتصادية لهولندا والتي تعد محطة رئيسية لحركة الطيران المدني بين الشرق الأوسط وأوربا من جهة، وصولا إلى الولايات المتحدة وبالعكس ثم العاصمة الأردنية عمان، ومررنا فوق الأطلسي واستغرقت رحلتنا وقتا طويلا ولكن وقت العودة من الولايات المتحدة إلى أوربا كان أقصر من وقت عبور الأطلسي من الشرق إلى الغرب بسبب حركة الرياح، وخلال تنقلنا بين أوربا والولايات المتحدة وبين المدن الأمريكية، لاحظت أن الأسماء اللامعة لأكبر شركات الطيران في العالم مثل بان أمريكان وTWA لم يعد لها وجود بين شركات الطيران، وربما يعكس ذلك جانبا من أزمة النظام الرأسمالي الدولي، فقد تم تفكيكها بعد إفلاسها وتأسست على أنقاضها شركات طيران جديدة لم تحتل المكانة التي كانت عليها “بان أمريكان” ويبدو أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر حرصا على انتاج الطائرات وبيعها لشركات الطيران الكبيرة في العالم، من حرصها على تأسيس شركات طيران كبرى كما كانت تفعل في الماضي، لأن المنافسة قوية من مختلف الشركات، أما الصناعة فقد أكدت تجربة “أير باص” أنها لم تنتج طائرة منافسة للبوينغ على الرغم من كل أشكال الدعم الأوربي للأير باص.
بعد أن أنجز واتسون ختم جوازاتنا في مطار الملكة علياء الدولي بسرعة، توجهنا إلى صالة الحقائب أخذناها، ثم وجدنا في انتظارنا سيارة من السفارة الأمريكية في عمّان وفيها معتمد لإيصالنا إلى الفندق، ولكن مروان سأل عن حقيبته التي بقيت في المطار قبيل السفر إلى مدينة شيكاغو قبل نهاية العام الماضي بثلاثة أيام، وبالفعل لم يطل البحث عنها وعثر عليها في مخزن المفقودات، وبعد أن استكملنا كل الإجراءات وأخذنا حقائبنا، توجهنا برفقة المعتمد إلى السيارة، وبعد نحو ساعة من مغادرتنا للمطار وصلنا إلى بناية عالية لا توحي بأنها فندق، ومن باب خلفي دخلنا إلى البناية وإذا بعدد من الموظفين في الفندق يستقبلوننا بإجراءات بوليسية تذكرنا بأفلام الرعب الأمريكية أو مجموعة أفلام جيمس بوند، حينما سألنا عن أسباب هذه التدابير اللافتة، قال لنا موظف الاستقبال في فندق SAS “إن السفارة أبلغتنا أنها تسعى لتوفير أعلى درجات السرية لوجودنا والحماية لنا، ولهذا أدخلتكم من الباب الخلفي وزودتنا بتعليمات صارمة لحمايتكم باعتباركم من الشخصيات المهمة “VIp” سألته مم يخافون علينا؟ أجاب لا أدري ولكن طالما كانت هذه تعليمات السفارة الأمريكية فنحن ملزمون بالتقيد بتلك التعليمات التي تخص نزلاء في فندقنا، فنحن لا نريد أن تسجل على هذا الفندق الكبير حادثة يمكن أن تخل بسمعته أو تلحق أذى بضيوفنا، ولما اقتربنا من الاستقبال كان الموظف قد أحيط علماً بمجيئنا ولم يدعنا إلى الجلوس في صالة الانتظار من أجل تسجيل المعلومات المثبتة في جوازات سفرنا، اقتادنا فورا إلى الغرف التي كانت قد حجزت لنا، وعلى مقربة من غرفنا تم حجز غرفة للسرجنت واتسون الذي رافقنا في سفرة الذهاب وغادرنا بمجرد وصولنا إلى قاعدة فورت هود وبإجازة مع أهله في الولايات المتحدة، ثم عاد والتحق بنا في القاعدة في يوم سفرنا صباحا، كان الفندق من فنادق الخمس نجوم وربما أكثر وهو فندق مبهر بتفاصيله الداخلية وغرف نومه وحماماته ومطاعمه الكثيرة، أخبرنا موظف الاستقبال بأن بإمكاننا طلب وجبة العشاء في غرفنا وهو يفضل ذلك، هنا شعرت بأننا شبه محجور علينا، قلت له، كلا بل سنتناول العشاء في المطعم، وبعد ذلك خرجنا في جولة في الشوارع القريبة من الفندق، ولكن برودة الجو وابتعاده عن المناطق التجارية لم توفر لنا إغراء بالذهاب بعيدا، وبعد أقل من ساعة عدنا أدراجنا ورحنا في سبات عميق بعد يوم سفر طويل ومرهق إلى حدود بعيدة.
ضحى اليوم التالي وحسب اتفاق سابق مع واتسون حزمنا حقائبنا ومضينا إلى مطار ماركة الأردني وبقينا بانتظار طائرة الـ C130 التابعة للقوات الأمريكية والتي كان مقررا وصولها من بغداد وهي تحمل جنودا أمريكيين مجازين في طريقهم إلى الولايات المتحدة، ثم لتعود بنا إلى العراق وبدفعة من الجنود العائدين إلى ساحة الحرب لقتل العراقيين، فيا لها من مفارقة كبيرة أن يستقل القاتل والضحية طائرة واحدة عائدة إلى العراق، حيث يتفجر الصراع على أشده بين شعب أبي، وقوة محتلة تريد تركيعه.
تأخرت الطائرة أكثر مما ينبغي، هكذا إذن حتى الطائرات التابعة للجيش الأمريكي تتأخر وقد يكون سبب ذلك مخاطر الهبوط والاقلاع من المطار، وربما تمثل هذه رسالة عزاء لنا عندما لا نلمس وجع جروحنا من التخلف الذي نعيش، وككل الطائرات المكلفة بواجب، كان لا بد للطائرة أن تصل وينزل ركابها، تستعد مع ركاب جدد في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى بغداد.
هناك صالة صغيرة ولكنها أنيقة لكبار الضيوف أو المسافرين في مطار ماركة، كنا ننتظر فيها وعن بعد ومع سقوط قرص الشمس وراء الأفق لمحنا الطائرة وهي تقترب من المدرج ثم استقرت غير بعيد عن القاعة، ولما لم تكن هناك شعبة خاصة بشحن العفش كما يحصل مع الطائرات المدنية، فقد بات لزما علينا أن ننهض بهذه المهمة بأنفسنا، ونحمل حقائبنا مهما كان وزنها ونسلمها عند باب الطائرة بعد أن تخضع للفحص الالكتروني وتربط في مكان مخصص لها داخل الطائرة، وعند هبوطها نكرر العملية نفسها مع فرق أساسي هو أننا أثناء وجودنا في مطار ماركا الأردني لا نشعر بوطأة الاحتلال الأمريكي وأوامر جنوده المرتبكين بسبب حالة القلق المسيطرة على أولئك الجنود في منطقة تتعرض لسقوط القذائف والصواريخ وتستهدف الطائرات التي تقلع والتي تهبط.
وبعد أن استكمل جميع الركاب نقل العفش المرافق واستقر الجميع في مقاعدهم وهو ما استغرق أكثر من ساعة أقلعت بنا الطائرة متجهة إلى بغداد، وبعد طيران استغرق نحو ساعة ونصف بدأ قائد الطائرة استعداداته للهبوط اللولبي والذي يتطلب منه ضبطاً لأعصابه، فالنيران الأرضية المنطلقة من الفلوجة أو من حزام بغداد له وللطائرة بالمرصاد، وهذا بدوره يجعل زمن الهبوط أطول بعدة أضعاف الوقت المحدد للهبوط الاعتيادي الآمن، وأخيرا بدأت الطائرة تسير على مدرج المطار ومن ثم توجهت نحو القطاع المخصص لخدمات القوات الأمريكية.
انتهت رحلتنا لأمريكا بعد أن صدر الحكم البائس على العريف القاتل، ولكن الضابط المسؤول الأول عن إصدار الأوامر لم يصدر عنه شيء، فالأمر يتعلق بضابط وانعكاسات أي حكم قضائي عليه واحتمال انعكاساته على المؤسسة العسكرية الأمريكية، والآثار التي يتركها حكم قضائي يمكن أن يلجم الضباط عن إصدار الأوامر لجنودهم أثناء الاشتباك خشية من حصول ما حصل في هذه القضية.
بعد أن استقرت الطائرة وبدأ الجنود بالنزول منها، نزلنا وتسلمنا حقائبنا من المكلفين بطرحها على الأرض، وأخذنا واتسون إلى إحدى قاعات الانتظار في المطار، وقلنا يجب تأمين واسطة تخرجنا من القاعدة العسكرية إلى البوابة الخارجية للمطار حيث السيطرة المسماة (جيك بوينت1)، وهي بعيدة عن الجزء العسكري المخصص للقوات الأمريكية، وهناك ستنتهي مسؤولية القوات الأمريكية عنا عند تلك النقطة، ولكن كيف سنصل إليها؟ لو كان مسموحا لنا الحركة بالحرية التي يتصرف بها ابن البلد في وطنه لاخترنا تأجير سيارة أو لما تُركنا هكذا من دون واسطة نقل، بل ربما كنا سنختار الانتقال إلى البوابة الخارجية للمطار سيرا على الأقدام مهما كانت المسافة بعيدة، فالحقائب التي نحملها حقائب ذات عجلات، ولكن المطار محتل من قبل الجيش الأمريكي وهو وحده الذي يمنح أذونات الحركة ويمنعها، وهذه هي المرة الأولى التي يُسلب العراقيون حق التنقل في مرفق من المرافق الوطنية التي كانوا يعتزون بها.
نعم لا يستطيع العراقيون أو وسائط النقل التي يمتلكونها من عبور هذه النقطة نحو المطار فمطار “صدام حسين الدولي” صار بعد الاحتلال أكبر قاعدة عسكرية للقوات الأمريكية الغازية ولم يعد ممكنا على أحد من العراقيين الدخول إليه أو الخروج منه إلا بإذن أمريكي، فيا لها من محنة إضافية تقض المضاجع وتُوجع النفوس، هنا تساءلت مع نفسي كيف يستطيع المتعاونون العراقيون تقبل فكرة الخضوع للأوامر الأمريكية على كل من يتحرك في هذه البقعة المستقطة من وطنهم؟.
بعد تفكير قصير أيقنت أن العملة الخضراء أسقطت كثيرا ممن كان ينظر إليهم البعض على أنهم كبار، صحيح أن النفوس الكبيرة والاكثر فقراً لا تبيع نفسها مقابل أي ثمن، ولكن هل يمكن المساواة بين أولاد عائلات ثرية لم يكونوا بحاجة إلى بيع أنفسهم للحصول على جاه مفقود او وجاهة فارغة او مزيد من الأموال؟ ومع ذلك سقطوا في أول اختبار للكرامة الوطنية وشرف الانتماء للعراق، هل يمكن المقارنة بينهم وبين شخص من عائلة معدّمة يسعى للبحث عن أية وظيفة من أجل إعالة أسرته؟.
قلت لواحد من المتعاملين في منشآت القاعدة الجوية الأمريكية، هل أنت راضٍ عن عملك مع عدو احتل وطنك؟ قال وما الفرق بيني وبين من يعمل مستخدماً محليا في سفارة أجنبية في بلده؟ ولماذا لا تسألون الذين باعوا العراق وكان بإمكانهم ألا يبيعوه ولكنهم انساقوا وراء نوايا شريرة وبحثا عن مزيد من الثراء الرخيص؟
تركته ولم اتمكن من إعطائه جواباً، ولكنني كنت أردد مع نفسي “الحر لن يبيع نفسه مهما غلا الثمن ومهما كانت الظروف”.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى