نهاية رحلة البحث عن حقوق ضائعة
ولمّا لم تكن هناك سيارة تتولى نقلنا من القاعة المخصصة للمسافرين من العسكريين الأمريكان المغادرين منهم والعائدين، إلى البوابة الخارجية للمطار، فقد مضى الوقت علينا هناك طويلا وثقيلا بانتظار من يأخذنا إلى تلك البوابة، لم يكن مظهر تلك القاعة يُوحي أنها مخصصة لمثل هذه الفعاليات التي تتطلب عادة مقاعد مريحة ومرافق ملحقة بها للشحن والوزن وغيرها مما يحتاجه المسافر من وسائل راحة، فهي خاصة بالعسكريين الذين يتحملون ظروف السفر مكرّهين على وفق ما ترسمه لهم قياداتهم العليا.
واسطة النقل لم تتوفر لنقلنا، على الرغم من أن القوات الأمريكية تحتفظ بعشرات الآلاف من العجلات المختلفة الاختصاصات وفي منشآت المطار تنتشر الآلاف منها، وحاول العريف واتسون أن يؤمّن لنا واسطة النقل ولكنه فشل في ذلك إلا بعد مضي عدة ساعات كنا خلالها نتقلب على جمر الانتظار، رغبة في تفريغ معاناة الانتظار، قلت لمأمون ومروان “لو أن السرجنت سينترون هي التي اتصلت بقسم العجلات الأمريكية وليس العريف الزنجي واتسون ألم يكن طلبها قد لُبي فورا؟ هذه هي عنصرية أمريكا التي تختفي في هذه التفاصيل الصغيرة”.
المهم كنت قد اتخذت احتياطاتي واتصلت بزوجتي من عمّان وأبلغتها بموعد وصولنا وطلبت منها أن تحضر إلى نقطة السيطرة الأولى قرب المطار كي تأخذنا إلى المنزل، معتقدا أننا سنصل قبل المغيب، ولكن الطائرة العسكرية الأمريكية كررت سنن شركات النقل الجوي في عدم الالتزام بمواعيدها متذرعة بذرائع شتى، وفعلا كانت زوجتي قد جاءت برفقة شقيقتي وابنتها كفرقة حماية، لأن تحرك النساء بالسيارات في شوارع بغداد أسهل وأضمن للسلامة من تحرك الرجال، ولكن زوجتي جاءت ثم عادت ثم جاءت وعادت مرة أخرى، ولما تأخر الوقت كثيرا فلم يعد بوسعها أن تأتي إلينا مع مرافقين صغار السن بسيارة تتحرك على طريق الموت في بغداد فالقوات الأمريكية تطلق النار على كل ساكن يتحرك أو متحرك يسكن.
بطارية الموبايل انتهى مفعولها تماما ولم يعد بوسعي أن أبقى على اتصال بالمنزل وإخبار الأهل بعدم وجود واسطة نقل أمريكية تؤمن نقلنا لمسافة لا تزيد على كيلومترين على أكثر تقدير، كنا قد طلبنا من الأمريكيين أن نذهب سيرا على الأقدام ولكنهم رفضوا تلك الفكرة رفضا قاطعا لأسباب تتعلق بأمن القوات الأمريكية ومنشآتها في منطقة المطار، واقترحوا علينا المبيت في المطار فرفضنا بدورنا ذلك المقترح من دون أن نمتلك إمكانية فرض رأينا على أحد، وبعد أن اقتربت الساعة من منتصف الليل، جاءتنا البشارة بأن وسيلة النقل قد حضرت، أهذا أمر يتطلب كل هذا الفرح بعد أن تطلب كل ذلك الانتظار؟ كنت أتساءل مع نفسي ومع مأمون عما إذا كانت زوجتي باقية حتى الآن في هذه المنطقة الخطرة حد الموت؟ ليس أمام الإجابة عن هذا التساؤل المرير غير بضع دقائق، وسنعرف كل شيء على الرغم من أننا كنا على يقين أنها لم تبق في المنطقة حتى قبل ساعتين.
حركتنا داخل الجزء المخصص للجيش الأمريكي من مطار بغداد الدولي، محكومة بموافقات عليا وليس بمقدورنا الخروج من المنطقة والذهاب إلى أي جزء آخر من تلقاء أنفسنا، لذلك اضطررنا للبقاء في هذا الجزء لحين توفر سيارة توصلنا إلى البوابة الخارجية للمطار، حاولت الاستنجاد بالعريف واتسون لإجراء اتصال بالمنزل، ولكنه رفض بحجة أن هاتفه يعمل بخط أمريكي ولا يصلح للعمل على شبكة الموبايل العراقية، تظاهرت بتصديق الحجة مع أنني كنت قد تلقيت منه اتصالا سابقا قبل نحو أسبوعين بشأن سفرنا إلى أمريكا، ولكن ضعف الذاكرة أوقع واتسون بهذه الكذبة المفضوحة، بعد طول انتظار وصبر على البقاء في الجزء العسكري الأمريكي من المطار العراقي، جاءنا واتسون وقال تهيأوا لنقلكم إلى السيطرة الأمريكية، كان الوقت قد تأخر كثيرا وأيقنا أن نقلنا من قبل القوات الأمريكية إلى حي العدل بات أمرا مستحيلا، حتى لو طلبنا ذلك لتعذر الواسطة البديلة، لأن الصيادين العراقيين بانتظار طرائدهم في هذا الوقت الذي يقيم فيه المؤمنون صلاة الليل والجهاد.
لم نكن نرغب بمثل هذا الاختيار السيء أصلا لأن الموت حق على كل إنسان، ولكن أن يموت عراقي يكره الأمريكان كما نحمل نحن من مشاعر على المحتلين، داخل عرباتهم المستهدفة من رجال حملوا البندقية والقاذفة نيابة عن كل العراقيين ليقهروا جيش الغزاة، فذلك أسوأ ما يمكن أن يصادف عراقي اي إن يموت في خندق عدوه، وهو في الوقت نفسه ينتمي إلى الخندق المضاد.
بعد أن وصلنا إلى السيطرة الخارجية لمطار صدام حسين، الدولي وجدنا ساحتها التي كانت تموج بالمراجعين، خاوية على عروشها وتضرب الريح بأبنيتها بقوة فتثير صوتا كأنه عواء الذئاب، وعشنا مشكلة عودتنا لبيتنا في هذه الساعة الموحشة وعبر طريق موضوع تحت دائرة الرصد على مدار ساعات اليوم، من قبل جميع فصائل المقاومة الوطنية المسلحة والمؤثرة على الأرض، فالمقاومة تترصد مرور قوات أمريكية عليه لتصطاد منها ما تستطيع، وتُصدّر أفرادها إلى بلادهم بتوابيت ملفوفة بالعلم الأمريكي، قبل ذلك وصلتنا معلومات مؤكدة من مصادر ذات مصداقية أن قيادة القوات الأمريكية عقدت اتفاقيات مع نجارين لصناعة توابيت بمواصفات خاصة ومن نوع محدد من الخشب لغرض إعادة قتلاها بها إلى امريكا، المقاومة تراقب الطريق بكل ما لديها من تقنيات وأسلحة طورتها تبعاّ لطبيعة المواجهات التي حصلت في أوقات سابقة، لأن هذه المنطقة خيبت آمال المحتلين في كل مرة يعلنون فيها أن النصر قد تحقق وأن الاستقرار سيكون متاحا بعد بضعة أيام، وتمر الأيام والأسابيع والأشهر والأمن يبدو كسراب يبتعد كثيرا كلما تقدم المرء نحوه.
عندما وجد الأمريكيون الذين أتوا بنا من داخل المطار أن السيطرة خالية من السيارات، دخلوا في مشكلة جديدة فنحن في عهدتهم طالما نحن في منطقة المطار، ومن واجبهم أن يؤمنوا لنا سيارة توصلنا إلى البيت، أو على الأقل تخرجنا من منطقة المطار كي تنتهي مسؤوليتهم القانونية، بدأت الحيرة تسيطر على وجوه جنود الدورية الذين جاءوا بنا إلى السيطرة.
بدأت محاولاتهم لتدبير سيارة لنا ولم تكن هناك غير دورية لشرطة النجدة ترابط في المنطقة بموافقة القوات الأمريكية وكأنها خط الصد الأول عن القوات الأمريكية في منطقة ساخنة كثيرا، بدأ الحديث بين آمر الرتل الأمريكي وآمر دورية النجدة إذ أمرهم بتأمين إيصالنا إلى المنزل، لم يكن أمام ضابط دورية النجدة خيارات كثيرة مع الأمريكيين، ولكن الضابط لم يتمكن من اتخاذ القرار بنفسه، كان عليه أن يأخذ موافقة مراجعه عبر أجهزة الاتصال اللاسلكية، لكن أمر الرتل العسكري الأمريكي فاجئنا وألقى قنبلة خطيرة حينما أبلغنا (بأنكم إذا قررتم الموافقة على الذهاب معهم فأنتم مسؤولون عن سلامتكم، لأننا لا نعرف عما إذا كان هؤلاء من الشرطة حقا أم لا، وأكد أن المسلحين الإرهابيين يمكن أن يكونوا قد نجحوا في اختراق هذا الجهاز وتسللوا إليه وبالتالي يمكن أن تكونوا أنتم المستهدفين، وربما نكون نحن المستهدفين، نحن لا نثق أبدا بكل ما يحيط بنا هنا)، ذهلنا من هذا الحديث الذي يعكس أقصى درجات التأزم والقلق عند أفراد القوات الأمريكية، فهذه شريحة تمثل نموذجا يعكس صورة صادقة لكل القوات الأمريكية العاملة في العراق، وعلى الرغم من كل التحذيرات التي أطلقها أفراد الدورية الأمريكية التي أوصلتنا من الجناح الأمريكي العسكري في مطار بغداد الدولي، إلى نقطة سيطرة الباب الخارجي للمطار، فقد قررنا أن نستعين بسيارات شرطة النجدة لإيصالنا إلى المنزل، لاسيما وأننا لم نجد بديلا آخر، فالمنطقة خالية تماما من السيارات والبشر، باستثناء الجنود الأمريكيين العاملين في السيطرة الخارجية وسيارات النجدة، وبعض الموظفين الذين يدخلون إلى المطار أو يخرجون منه ممن يعملون في مؤسسات الجيش الأمريكي، طبعا كان من المستحيل الاستعانة بأحد منهم مهما كانت الظروف، فنحن نظن أن هؤلاء جزء من المجتمع ولكنه باع نفسه لشيطان غواية المال السحت وبالتالي فهو أسوأ من جنود القوات الأمريكية، عندما تحدث ضابط صف الدورية الأمريكية بلهجة آمرة مع ضابط دورية النجدة العراقية، ذهب هذا الضابط إلى الاعتقاد بأننا شخصيات في غاية الأهمية من العاملين مع الأمريكيين، أسفنا كثيرا لهذه الصورة البشعة التي كونها أفراد شرطة النجدة ولكن لا حيلة لنا إلا أن نعود إلى المنزل، لا ينفع الحديث معهم وتقديم عرض بقضيتنا لهم، من يدري فقد تثير واقعة من هذا القبيل ردود فعل عندهم، بسبب حقدهم على كل يتراصف مع الفعل المقاوم، فقد رأيت أن ثقة الأمريكان بهم يجب أن تدفعنا لنزعها عنهم، واقع الحال أن دورية شرطة النجدة لم تكن محل ثقتنا كما أنها كانت محل ريبة الجانب الأمريكي، وهذا أسوأ ما يمكن أن يصادفه عراقي في حياته.
لهذا أبلغت مأمون ومروان بعدم ذكر شيء عن مهمتنا في أمريكا ولسنا مضطرين لسرد هذه القصة لكل من هب ودب ومن الذين لا يقدمون ولا يؤخرون في جوهر القضية.
الشرطة لم تر في مثل هذا الواجب خروجا على مهماتها الأصلية لأن القوات الأمريكية هي التي أمرت بذلك حتى وإن كانت قد تحفظت على ذلك لأسباب عدم الثقة بدورية النجدة، بدأت أجهزة الاتصال تعمل بكل طاقتها بين سيارة قيادة الدورية والمركز الرئيس لشرطة النجدة، وعندما ركبت في السيارة ظل جهاز الاتصال يعمل من اللحظة التي تحرك فيها من المطار وحتى وصولنا إلى المنزل، كان ضابط الدورية يعطي المعلومات تباعا لغرفة القيادة في شرطة النجدة ومع كل مثابة نصلها كان يبلغ المركز باسمها، كان المسير بطيئا ومحفوفا بمخاطر جمة لاسيما أننا كنا نمر في طريق الموت أي طريق مطار بغداد الدولي الذي أرسلت فيه المقاومة الوطنية المسلحة آلاف الجنود الأمريكيين إلى الآخرة، كان أفراد دورية النجدة يشهرون أسلحتهم الأتوماتيكية من خارج نوافذ السيارات تحسبا لكل طارئ، بعد رحلة لم تصادف أزمة مرورية بسبب خلو الشوارع من أية حركة باستثناء بعض الدوريات الأمريكية، وصلنا المنزل ووجدت أن ما قام به أفراد الدورية يستحق المكافأة، فدفعت لهم 50 ألف دينار، حقاً كانت أكثر عمليات تنقّلنا بين المطار وبغداد إثارة للقلق والتأزم، الشرطة تحسب لنا حسابا غير ما هو فينا، حسنا ماذا لو أن أحد أفراد هذه الدورية هو أحد رجال المقاومة، هل بإمكاننا إقناعه بأننا أصحاب قضية عادلة كنا نتابعها في أمريكا؟ أسئلة كثيرة دارت برؤوسنا ولم نعثر لها على إجابة.
استقبلنا الأهل بترحاب عال بعد أن امتص قلقُهم علينا كل رصيدهم من الصبر والجلَد، وكنت قد قطعت عهداً على نفسي بعدم السفر مرة أخرى حتى لو استدعتنا القوات الأمريكية لمتابعة محاكمة النقيب سافيل الذي أصدر الأمر برمي زيدون ومروان أمام فتحات ناظم الثرثار.
هذه هي الحلقة الأخيرة من قصة استشهاد زيدون مأمون السامرائي، حرصنا جهد إمكاننا أن نسردها بالتفصيلات الكاملة، أضعها أمام العراقيين وأصحاب الضمائر الحية في العراق والوطن العربي والعالم، من أجل أن أُثّبت عدة حقائق من أهمها:
1 – لو أن كل مواطن عراقي لاحق جرائم الغزاة القتلة، لاستطعنا أن نكوّن رأيا عاما في المجتمعات الغربية بما فيها مجتمعات الدول المعتدية، ضد حكوماتها لاسيما وأن تظاهرات حاشدة قد خرجت قبيل العدوان في لندن ونيويورك وغيرها من الدول التي شاركت في العدوان، ولكن شيئا من هذا لم يحصل للأسف الشديد مما يؤكد أن العراقيين بحاجة إلى ثقافة المتابعة القانونية لحقوقهم فشريعة الغاب هي السائدة، وهذا التقاعس هو الذي أدى إلى خسارتنا مرتين مرة عندما خسرنا أبناءنا ومرة عندما خسرنا القضية في جانبيها الإنساني والقانوني.
2- إن هذا العرض يعد واحدا من أدوات تثبيت الحقائق لجرائم الاحتلال الأمريكي، وتفنن الهمجية الأمريكية في وسائل القتل التي تَعرضَ لها الشعب العراقي، وهذه الشهادات لا بد أن يأتي اليوم الذي ينتصف فيه العراقيون من كل الدول التي غزت بلدهم ودمرت منظومة الدولة عندهم وأعادتهم إلى عصر ما قبل الصناعة، وهذه دعوة لكل من عنده قصة سواء مع قوات الاحتلال الأمريكي أو البريطاني أو الإيراني أو من فعل المليشيات الطائفية أو قوات الحكومات التي تم تنصيبها منذ الاحتلال وحتى اليوم أن يبادر لتدوينها قبل أن فوات الوقت.
بعد كل الذي جرى، رب سائل يسأل “ماذا قدمت لكم حكومة الاحتلال من عون أثناء تنقلّكم بين العراق والولايات المتحدة”؟
ربما أفهم أن التساؤل يشمل الجانبين المادي والمعنوي، ولكنني كنت أبادر لأقطع الشك باليقين كما أعلن ذلك أخي مأمون والد الشهيد زيدون أكثر من مرة، فأقول “أولا نحن لم نبحث عن تعويض مادي من المجرم الحقيقي الأب الحقيقي للعملية السياسية الفاسدة التي أنشأها المحتلون بعد احتلالهم للعراق عام 2003، فهل نبحث عنه من عبده المطيع وخادمه الذليل والذي لا يمتلك لنفسه ضرا ولا نفعا؟ أما في الجانب المعنوي فسلطة الاحتلال، طرف ملحق بإحدى غرف السهر والمجون وتوفير مستلزماتهما في مكتب بول بريمر الحاكم الأمريكي، هي لم تفكر يوما بإزعاج المحتل ولي نعمة الضالعين فيها الذين انتشلهم من قيعان مستنقعات الرذيلة، وجعل منهم حكاما يمتلكون المال بعد جوع، والسلطة بعد ذُلٍ وخنوع، ولن تجرح مشاعر المحتلين بمجرد المرور العابر على إحدى جرائمهم اليومية، بل كانت أسرع منه في مباركة ما يرتكب من فضائع بحق العراقيين الأبرياء، بل إن تلك العصبة كانت تُكلف أحيانا في تنفيذ بعض جرائم لا يريد الأمريكيون تنفيذها بأنفسهم كالخطف والسطو على البيوت وغيرها من جرائم، لأن ارتكابها من قبل قواتها النظامية قد يسيء إلى سمعتها، بل تريد إيكال تنفيذها إلى عصابات مأجورة تتحرك بأوامر سادتها، أجزم بأن هذه السلطة لو كان لهم من الأمر شيء، لوضعت العراقيل في طريقنا، بل لأصدرت قرارا بمنعنا من السفر، وربما سيتُصدر قرارا باعتقالنا لإسكاتنا عن متابعة الملف، ولكن عناصرها مجرد بوابين وحراس جبناء لمكاتب أسيادهم الذين جاءوا بهم من المزابل ونصّبوهم حكاما على العراق.
في عراق الاحتلال ليس من حق أي إنسان سوَي أن يتوقع من مجلس حكم بول بريمر أن يتعامل مع جرائم الأمريكيين بغير غض البصر ووضع الوقر في الآذان؟ أما الحكومة التي خرجت من رحم مجلس الحكم، فهي النسخة السوداء من مجلس الحكم، وكل ما تريده هو تمرير الوقت لجني مزيد من السحت، فهل يتوقع أحد أن سلطة بهذه المواصفات يمكن أن تتصرف بطريقة أكثر شرفاً مما حصل؟والصمت تجاه جريمة اكتسبت مستويات عليا من الاهتمام الدولي سياسيا وإعلاميا.
لو أرادوا لأنفسهم شرفاً هبطت إليهم فرصته، لبادروا إلى تقليد الدولة التي جاءت بهم إلى السلطة في تعاملها مع ما يحصل لمواطنيها، وقالوا “هو مواطن عراقي قُتل بطريقة وحشية وعلى الأقل علينا أن نقول كلمة حق واحدة، حتى لو كان من باب ذر الرماد في العيون”، ولكن كانوا مخلصين للجنسيات التي يحملونها والبلدان التي ينتمون إليها بالأصل والولاء، وهذا أمر له تبريره ولكن من أين تأتي المواقف الشريفة؟ ولو أنهم قلدوا سادتهم وعادوا إلى القانون الأمريكي الذي لا يتساهل مع أي فعل يمس حياة مواطن أمريكي لوجدوا لأنفسهم حجة”.
سلطة رخيصة لا تحمل من العراق إلا خزينة تحلم بتفريغها، وبلدا تريد تصفية مدخراته البشرية والمالية والعلمية ومكامن قوته وكرامته ومنجزاته العمرانية بأسرع وقت، لأنها منحدرة من أمم تحمل موروثا تاريخيا متراكما من الحقد على العراق.
هؤلاء لا يشّرفنا أن يُقدموا لنا عونا ماديا أو معنويا أو حتى مجرد استكار الجريمة، ولهذا وضعنا سلطة الاحتلالين خارج كل حساباتنا أثناء حركتنا باستثناء تبليغ رئيس مجلس “المحكومين” بوقوع الجريمة، هذا المجلس الشائه الوجه والذي شكّله بول بريمر كأول وعاء طائفي أقيم على أساس المحاصصة الطائفية التي ستؤدي إلى خنق العراق بتولية كل تافه المناصب العليا في البلد، ولتكون هذه هي بداية الانهيار الحقيقي لمكانة العراق الدولية، ولثرواته الوطنية التي ستصبح نهبا لمافيات السلاح والمال، بعد أن أمسك تحالف التشيع السياسي بمقاليد السلطة ووقف شاهرا سيفه أمام كل من يظنه منافسا له في الغنيمة، ووزع ببخل شديد فتات مائدته على أكراد السلطة السياسية، وما تبقى من فتات الفتات مُنح للسنة الملجومي الأفواه والمفتوحي الجيوب.
على العموم بعد أن حضرنا أنا وأخي مأمون والد الشهيد زيدون رحمه الله، ومروان ابن أخي عبد الحكيم “الذي تعرض لاعتداء مماثل لِمْا تعرّضَ له زيدون ولكنه نجا من موت محقق بفضل الله”، جلسات المحاكمة العسكرية التي عُقدت في قاعدة فورت هود الأمريكية، لمحاكمة المسؤولين عن تنفيذ جريمة قتلِ زيدون، أصدرت المحكمة المذكورة حكما بائساً وهزيلاُ على العريف المسؤول المباشر عن تنفيذ الجريمة، وتأخر حتى وقت لاحق صدور الحكم على النقيب سافيل الذي أصدر الأمر لجنوده بارتكاب فصول الجريمة، لم يكن ميسورا أن نفرضَ على المحكمة تصورنا ولكننا لم نهمل أية فرصة لإنزال العقوبة بالجناة.
لهذا وجهت رسالة اعتراض إلى قاضي محكمة فورت هود العسكرية وسلمته إلى المحامي الأمريكي وهو ضابط يتدرب على هذه الوظيفة، ويمكن الاطلاع عليها في الملاحق.
هنا انتهى سرد القصة الحزينة لاستشهاد زيدون وجريمة الشروع بقتل مروان وهي واحدة من عشرات بل مئات الآلاف من القصص المماثلة أو المتقاربة بطريقة ارتكابها.
وأكرر رجائي لكل من عانى من محنة مماثلة أن يبادر إلى تدوينها، كي تبقى كشهادات ثابتة للتاريخ حفاظا على حق سياسي وأخلاقي أصابنا بحزن عميق في وقته أو في أي وقت نتعامل معه، ولكنه للأبناء والأحفاد سيكون صفحات فخر ومجد لكل من سقط شهيدا أو تعرض لظلم من الأوغاد الذين سلطتهم أمريكا وإيران طغاة بغاة على رقاب العراقيين الأحرار.