بداية حزينة ونهاية مأساوية
انتقل جميع الأهل والأقارب ممن يقيمون في بغداد إلى سامراء في عزاء مبكر حيث يقيم بقية الاخوة والأقارب، وانتظارا للكشف عن مصير زيدون بعد غياب قسري استمر عدة أيام، في المقدمة جاء الدكتور شامل السامرائي عميد الأسرة وعم والد زيدون وهو وزير سابق أثناء حكم الرئيسين عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف، كما جاءت عمات زيدون وعمات أبيه من بغداد ليشاركن من سبقهن قلقا صاخبا، هكذا العراقيون يجتمعون في الأحزان أكثر من حرصهم على التجمع في الأفراح، صام الجميع على أمل أن يغيب عنهم الشك باليقين وكانت العيون تنظر حائرة إلى بعضها والقلوب في غفلة عما يحيط بها والضمائر كلها تلتصق بقضية البحث عن زيدون الذي تأكد لنا أنه ذهب ضحية لجريمة مبتكرة في وحشيتها وبدم بارد ارتكبتها القوات الأمريكية برميه وابن عمه مروان في إحدى فوهات ناظم الثرثار والتي تأخذ مياه دجلة من بحيرة مقدم سد الثرثار لتعيدها إلى نهر دجلة بعد أن تختلط مع مياه ذراع الثرثار دجلة والفرات عبر ذراعي الثرثار الفرات والثرثار دجلة، لأن المياه القادمة من خزان الثرثار الهائل إلى نهر دجلة تحمل معها الكثير من الأملاح بحيث باتت غير صالحة للاستهلاك البشري أو استخدامات الزراعة.
أصرّ مروان أنه وابن عمه تم إلقاءهما في النقطة التي تقع في فوهة الناظم المؤدي إلى قناة الكتم، بدأت عمليات البحث عن زيدون بكثافة وجئنا بغواصين للبحث عنه واستحصلنا موافقة مدير الري لمنطقة سامراء لإغلاق البوابات التي تتدفق في القناة لثمانٍ وأربعين ساعة، وبعد انتهاء المدة ونتيجة لعدم عثورنا على جثمان زيدون فقد كررنا الطلب لإغلاق البوابات مرة أخرى، كان قرار الغلق يتطلب موافقة مركزية من وزارة الموارد المائية في بغداد هكذا تم توصيف الحال، مع علمنا بأن العراق بعد الاحتلال تحول إلى دولة بلا رأس وكل ساق تذهب في الاتجاه الذي يحلو لها، مع الأخذ بنظر الاعتبار بأن بول بريمر سلم الحكم للشيعة لاسيما بعد أن غضت القوات الأمريكية النظر عن تدفق عشرات الآلاف من عناصر المليشيات من إيران والموالية لسلطة الولي الفقيه ثم واصلت تواطأها معهم عندما شكلت مليشيات جديدة مثل جيش المهدي وبالتالي منحتهم قوة المال وقوة السلاح لتدعيم سلطة الشيعة السياسية.
وبسبب تأثير إغلاق بوابات الناظم على نسبة الأملاح الذاهبة إلى نهر دجلة والتي تجري في ثلاث محافظات تحت مدينة سامراء وهي بغداد وواسط وميسان قبل أن يلتحم دجلة بالفرات ويكوّنا شط العرب في محافظة البصرة، ومعنى زيادة نسبة الملوحة فيها أن المزروعات ستتعرض إلى خطر الهلاك المؤكد، وكذلك السكان والحيوانات وانعدام مظاهر الحياة، ومع ذلك وحينما وجد مدير ري سامراء أن الأجواء النفسية لأهل المفقود كانت في ذروة الاحتقان فقد استجاب ولم يُعر أهمية لقرارٍ من بغداد التي تعيش تحت الاحتلال الأمريكي من دون سلطة، قال لنا بعض الصيادين إن الماء البارد لا يسمح للغريق أن يظهر على سطح الماء إلا بعد عدة أيام، واستمر البحث لعدة أيام مع إشراقة الضياء الأول، ويتناوب الباحثون على مدار ساعات النهار، البعض رابط على شاطئ القناة متحدياً البرد القارس على أمل أن يُنقذ جثة الغريق من غربة عن أهل يتحرقون شوقا لمعرفة الحقيقة، كانت الآمال بالعثور عليه حياً تتلاشى تدريجياً، على الرغم من أن الأم والأب يمكن أن يشاهدا ولدهما مسجى أمامهما ولكنها لا يغادران الرجاء بأن يعود إلى الحياة، فكيف إذا كان مفقودا ولا دليل قاطعا على موته، البعض كانت تراوده آمال بأن زيدون يمكن أن يكون معتقلا لدى القوات الأمريكية، مجرد أن تطرح فكرة كهذه سرعان ما تتلقفها القلوب القلقة في محاولة لتهدئة الخواطر المشحونة بكل أسباب التأزم في أعلى درجاته والنقمة على القتلة، وعلى من تعاون معهم وعلى العملاء الأذلاء الذين ساروا خلف دباباتهم لإذلال العراقيين، ومع الوقت تبدأ تلك الأفكار الوردية بالتراجع والتلاشي عندما يدخل العقل على خط التحليل، إذن لماذا عثرنا على سترته (جاكيتته) في القناة التي يدور البحث عنه فيها؟ وهل يعقل أن الأمريكان يمزحون في تجارة الموت؟
لم يتأخر أحد لحظة واحدة عندما تطرأ لديه فكرة إلا وطرحها من دون تفكير بواقعيتها أو وجاهتها، تحولت جلستنا إلى منتدى لتداول الأفكار الساذجة والأوهام والآمال التي كانت تقطعها بين الفينة والأخرى صرخة سيدة جديدة جاءت لتقديم التعزية ولترتفع معها أصوات العويل الذي ينفلت من بين الصدور، وبسبب صراع اليأس والأمل، أصبحنا مسرحا تلقى فيه قصائد الشعراء من كل الطبقات من دون تمحيص، وكان هذا تعذيبا مضافا إلى معاناة الأهل، نعم الجميع كان يشعر بوجع المحنة وألمها ولكن لفجيعة الأب والأم لغة لا يفهما إلا هما أو من مر بمثل ما وقع لهما وخاصة إذا كان موقع الألم ناتج عن فقدان الولد البكر الذي يحمل كل الصفات الحميدة التي يتطلع الأبوان أن يكون ابنهما عليها، لم ينقطع البكاء والعويل الذي كان يتخطى جدران الألم ليتنقل بطرقات الحي وأزقته من دون استئذان من دوريات القتلة الأمريكان الذين يعرفون مصير زيدون ولكنهم يتلذذون بتعذيب أهله مرة أخرى، فبعد أن قتلوه ها هم يُنكرون قتله بل يُنكرون علمهم بأسباب فقدانه ناهيك عن مصيره، فهل هناك وحشية أكبر من هذه حينما يتعمد القتلة السخرية من آلام ذوي القتيل بعد أن عاشوا مسرحية إلقائه في ناظم الثرثار، الذي لو فكر المهندس الألماني الذي صممه وصمم الكتل الخرسانية التي وضعها لتكسير قوة الأمواج الهادرة النازلة من علو، بأن هذه المصدات ستتحول إلى مصائد في جرائم قتل مارستها قوات البلد الذي دمر ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية في ممارسة سادية نادرة الوقوع في الحروب، لو كان هذا المهندس يفكر بما ستؤول إليه هذه المصدات الصلبة، ربما كان سيخفف من آلام بني البشر الذين يسقطون في لجتها أو ترميهم قوى تحتل بلدهم إيغالا في نزعة الانتقام من هذا البلد الذي استعصى عليهم ردحا من الزمن، القوة الأمريكية ذات النزعة العنصرية الاستعلائية التي فتكت بزيدون وتتعمد إخفاء معالم جريمتها وتروح وتجيئ قرب منزله لمعرفة ما توصل إليه الأهل من حقائق، وفي دوامة القلق نسي الجميع مروان وما عاناه من ليلة اقترب فيها من الموت من دون حواجز، واختزن في بدنه بردا كثيرا لليلة ربما كانت أطول ليلة في حياته، كان التفكير ينصب على البحث عن عزيز آخر يجب العثور عليه في وسط مائي متحرك التيار ومع أجواء أمنية معقدة وشد عصبي لا يجب أن تفلت فيه الأعصاب في وقت نحتاج فيه إلى حكمة التصرف أكثر من شجاعة كل الرجال في التاريخ، فخطأ واحد يمكن أن يمنعنا من مواصلة البحث، ويمكن أن يكلفنا مسؤولية تهديد الأمن على وفق التهم الأمريكية الجاهزة وليس فقدان أحد أبنائنا فقط، وهذا من أسوأ المعاناة التي يمر بها ذوو ضحية عندما تنعدم الحقوق ويضيع العدل ويسود الظلم وشريعة الغاب.
طلبنا من مروان أكثر من مئة مرة أن يقص علينا تفاصيل ما وقع، نحن نعرف أن الرواية ستتكرر بمضامينها حتى وإن تغيرت صياغاتها والكلمات التي تحكيها، كان مروان يحس بإعياء شديد يقعده عن الحركة، كان من حقه أن يجزع ويشعر بالمرارة والألم فقد غادر بغداد مع ابن عمه ولكنه عاد منفردا إلى بيت يعج بالضجيج والعويل والأسئلة التي تتكرر عليه من كل زائر، كان علي شخصيا أن أقف صلبا في هذه الظروف مستعينا بالعم الدكتور شامل السامرائي الذي هو عميد الأسرة وكبير العائلة، ذلك أن ظرفا كالذي نمر به يتطلب تدخلا مباشرا لفض النقاشات ومنع الأسئلة التي كنا نلمس منها فتيلا يمكن أن يقترب من برميل بارود الأب الذي تتقافز أمامه مئات الأسئلة ومئات الصور السوداوية، كنا نلتقط معاناة النساء القريبات من مكان جلوسنا، كان اللقاء بين أم زيدون مع أقارب زيدون الأكثر مأساوية حيث تطلق كل منهن لنفسها العنان بعويل يمزق الضلوع.
وأخيرا جاء صوت النعي بأنه تم العثور على جثمان زيدون طافيا في القناة المائية على بعد نحو كيلو مترين من الناظم، حمدنا الله على هذا المصاب وحمدناه أن المجهول بات معلوما حتى إذا كان ملفوفا بكفن، فمأساة المفقودين ومجهولي المصير، عزاء يتجدد في كل لحظة ودقيقة وتبقى الأنظار تتجه إلى لا عنوان، تبحث عن طمأنينة على مصير عزيز، وهذا ما أعاد المأساة إلى نقطة البداية، فارتفع العويل من الجميع، ونزلت الدموع مدرارا من الجميع ولكن بكاء الرجال كان بصمت مرير.
ثم جاءوا بجثمان زيدون بعد تردد وطول جدل إلى منزل جده المرحوم الحاج فاضل حسون الذي تحوّل إلى مثابة التقى فيها جميع الأهل والأقارب، ومع تلك اللحظات العصيبة تعالى عويل النساء، إذ انفلتت المشاعر المكبوتة التي ظلت حبيسة بين الضلوع لتخرج من دون سيطرة، ولم يحاول أحدنا التدخل فيها بعد أن أصبح مصير زيدون معلوماً.
الموت حق على كل ابن آدم قهر الله به عباده، ولكنه عندما يختطف حياة شاب في مقتبل العمر، يرى فيه أبواه مستقبلا مشرقا ويعلقان عليه آملا عريضة، يكون للموت طعم آخر قطعا، نحن الشرقيين إذا ما فقدنا عزيزا حتى إذا دخل (في العمرين) وتقلبت حياته بين السعادة والمتاعب، فلا مجال للتحكم بالمشاعر، إذ تشيعه صرخات المحبين وخاصة من قبل النساء، فكيف إذا كان الرحيل لشاب في مقتبل العمر، وكانت الخاتمة بغدر جبناء جاءوا غزاة عبر آلاف الكيلو مترات لينشروا ثقافة الموت في كل زاوية حلّوا فيها، بعد عقود مما بشروا به عن مجتمع الحرية والعدل في أفلام بطولاتهم التي خدّروا بها شعوب العالم، راحت الناس في سبات لعشرات السنين فتصورت الشعوب أن تقاليد الجنتلمان الأمريكان وتعاملهم مع الآخرين وخاصة بعد انتصار الآلة الحربية على شجاعة الفرسان، سوف تجعل من اليانكي جندي الاحتلال المُرحب به حيثما حل، لأن الخير يحل معه في كل الزوايا، ولكن جنود الاحتلال في كل مكان هم على أعلى درجة من السفالة وانعدام الرجولة مع أي شعب مقاوم، لهذا يظنون أن كل واحد هو مشروع متفجرة أو حزام ناسف أو عملية انتحارية أو رصاصة غدر وما دروا أن أبطال المقاومة يواجهون المحتلين بصدور عارية وجها لوجه ولا يستنسخون غدرهم، هكذا تحركت فيهم خلفياتهم المصابة بجنون التفوق الأمريكي الذي شبع حتى التخمة من البناء النفسي بأنه الشعب الأكثر جسارة وإقداما وأن أحدا لن يصل إلى حافة قدمه، ومما عزز هذه الأوهام المريضة أن الأدّلاء الأذلاء مما سموا أنفسهم بالمعارضة، صوروا للأمريكي بأن أكاليل الغار ستلقى عليه وهو يتقدم نحو العمق العراقي وإنه لن يدخل مدينة عراقية إلا وتنحر له الذبائح بقدر عدد جنوده، كان هذا ظنه السقيم وعززته بعض الممارسات الساقطة لمعممين أقاموا دعوات زقوم ماجنة في الكاظمية للمجرم بول بريمر، وأن غبيا آخر أهدى لوزير الدفاع الأمريكي نموذجا ذهبيا لما يسمى بسيف (ذو الفقار)، ولكن العراقيين وبعد لحظة انعدام وزن ودهشة قاتلة من سلوك قطعان الغوغاء التي نهبت كل الممتلكات الحكومية في مشاهد نقلتها شبكات الفضائيات على الهواء مباشرة بتشجيع من المحتلين، بعد هذه الفسحة من استرداد الوعي الوطني، انطلقت أسرع مقاومة في التاريخ هي المقاومة الوطنية المسلحة، المقاومة اليتيمة الوحيدة في العالم التي قارعت المحتلين بما يغنمه المجاهدون من سلاح الغزاة، أو بإعادة تأهيل أسلحة الجيش العراقي وزجه في مواجهة غير متكافئة ولكنها أفقدت جنود الاحتلال أعصابهم حتى تحول عشرات الآلاف منهم إلى مرضى نفسيين لن تنفع معهم كل جلسات العلاج أو العقاقير المهدئة.
نعم كان نحيب النسوة تعبيرا عن الشعور بالإحباط لفقدان شاب عزيز اختطفت حياته نوايا الغدر الأمريكية قبل أن يتذوق أبواه طعم الحياة معه بعد أن يباشر مسيرة حياته الزوجية ويكوّن أسرته الصغيرة، ولم تنفع مع النسوة النصائح بخفض الصوت، ومن كان يدعو إلى ذلك سرعان ما يتحول إلى خصم.
الإنسان على علو قدره وعظيم مكانته عند أهله، فإن دفنه في أسرع وقت بعد الوفاة يكون أمرا ملّحا من أقرب أهله إليه، فهذه سنة دينية لا تحتمل التغيير وهذه مفارقة حياة الإنسان وموته، وهنا برزت مشكلة كبيرة، هل نسلم الجثمان للأمريكان من أجل تشريحه أم نبادر من فورنا لدفنه ونتحمل تبعات هذا القرار؟ رفض الجميع فكرة التشريح بأي حال وخاصة من قبل قاتليه، فهو شهيد ولن تدنس جسده الطاهر أياد تقطر بالدم، وبعد مشاورات مع علماء دين ووجهاء المدينة صدر القرار بعدم تسليم الجثمان للأمريكان، وبرزت قضية أخرى وهي هل نغسله ثم نكفنه أم نتركه بملابسه التي قضى فيها؟ أفتى بعض العلماء بأن بالإمكان دفنه مع تغسيله لجواز ذلك من دون أن ينتقص ذلك من مكانته عند الله والناس.
وبعد اكتمال تلك الخطوات استعد الجميع لتشييع الجثمان، فبدأ موكب التشييع من دار الحاج فاضل حسون (جد الشهيد) وخرج فيه المئات من أبناء مدينة سامراء وفي المقدمة منهم رجال المقاومة المسلحة الذين ألحقوا هزيمة كبيرة بالقوات الأمريكية المحتلة، وقد أطلقوا العيارات النارية بكثافة خلال التشييع الذي شق طريقه في شوارع سامراء وسط تكبير وتهليل المواطنين الواقفين على أرصفتها، وبعد أن وصل الموكب إلى مقبرة سامراء، تمت مواراة جثمان زيدون الثرى إلى جانب جده وجدته وأهال عليه أقاربه والمشيعون التراب وسط مشاعر حزن عميقة عليه وغضب جارف على الأمريكان الذين قتلوه بهمجية ودم بارد، بجريمة مبتكرة بوحشيتها، وربما كانت أول جريمة إعدام تنفذ بالإغراق الحقيقي في بداية العام حيث تنخفض درجات الحرارة إلى ما يقرب من الصفر المئوي، وبعد انتهاء مراسم الدفن عاد كثير من المشيعين إلى منزل الحاج فاضل حسون حيث تقرر إقامة مجلس الفاتحة على الشهيد، وخلال المجلس كانت مداولاتنا تنصب على كيفية التعامل مع هذه الجريمة البشعة، تداولت بشكل خاص مع عمي الدكتور شامل السامرائي عن رأيه في كتابة رسالة مفصلة إلى عدد من قادة دول العالم والمنظمات الدولية، فاستحسن الفكرة وشجعني عليها وتعددت اتصالاتنا مع كل من له خبرة في مراكز الانترنيت لإيصال الرسالة إلى العناوين المثبتة فيها، وترجمة النص العربي إلى اللغات الحية الأخرى لتسهيل وصول الفكرة وخاصة إلى أجهزة الإعلام العالمية، خاصة وأن الجريمة متميزة بطريقة تنفيذها ووحشية تعبر عن قسوة أفراد الجيش الأمريكي الذي قيل أنه جاء لنقل الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى العراق.
المهم كتبت الرسالة ووجهناها باسم والدة الشهيد زيدون إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن قائد العدوان وعدد من الرؤساء ورؤساء الحكومات في العالم والأمناء العامين للمنظمات الدولية عبر شبكة الانترنيت شرحنا فيها القصة كاملة وطالبنا فيها بفتح تحقيق بالأمر ومعاقبة الجناة، وهذا هو نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية
السيد جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسية
السيد توني بلير رئيس وزراء المملكة المتحدة
السيد الدكتور عدنان الباججي رئيس مجلس الحكم الانتقالي
السيد بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي
السيد كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة
السيد عمرو موسى أمين الجامعة العربية
السيد رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر
السيد رئيس منظمة حقوق الإنسان
أيها السادة المحترمون
إنني في ظرف نفسي صعب للغاية وقد يفجر ذلك مشاعري وانفعالاتي، وذلك بسبب المصاب الجلل الذي أصابني وزوجي عندما فقدنا ولدنا البكر والذي يبلغ من العمر تسعة عشر ربيعا، والذي كان يتطلع للحياة بنظرة ملؤها التفاؤل والأمل خاصة عندما تم عقد قرانه على إحدى قريباته، فتوجه بكل طاقته لبناء حياته اللاحقة على أسس قوية وراسخة، إلا أن الأقدار كانت له ولأحلامه بالمرصاد إذ اختطفته على حين غفلة فترك جرحا نازفا في قلوب أبويه وخطيبته ومحبيه، واسمحوا أن أسرد لكم القصة بتفاصيلها.
يوم السبت المصادف 3/1/2004 كان ولدي زيدون ومعه ابن عمه مروان قادمين من بغداد إلى مدينة سامراء حيث نقيم، حيث يعملان في سيارة شحن صغيرة تعود ملكيتها لشخص ثالث، وذلك من أجل توفير سبل العيش في بلد هدته الحرب والحصار، نعم كانا عائدين من بغداد إلا أن سوء الطالع رافق الرحلة من بدايتها فقد أصيبت السيارة بعطل لم يسمح لها أن تواصل الرحلة مما أدى إلى تأخير في الوصول إلى سامراء في وقت يقترب مع بدء سريان منع التجول في المدينة، وهنا يبدأ الفصل الأول من المأساة، إذ اعترضت السيارة دورية عسكرية تابعة للجيش الأمريكي، وبعد أن استكملت كافة إجراءاتها بتفتيش ولدي وابن عمه وتفتيش حمولة السيارة، أنزلوهما من السيارة وشدوا وثاقهما واقتادوهما إلى منطقة تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات، وأمام إحدى بوابات ناظم الثرثار حيث تتدفق المياه بقوة هائلة، ووسط ذهولهما، أمرهما الجنود بقذف نفسيهما إلى الماء في البرد القارس عند منتصف الليل، وتم دفعهما بقوة، وللأسف الشديد لم يكن ولدي يجيد السباحة، على الرغم من أن السباحة في هذا الفصل ومع قوة التيار الجارف لا تجدي نفعا، ومع ذلك فإن ابن عم ولدي الذي علق بإحدى الشجيرات نجا من الموت بأعجوبة ليحكي لنا هذه القصة المأساوية، ولقد بذل جهودا كبيرة لإنقاذ ولدي ولكن تيار الماء المتدفق كان أقوى منه ومن محاولاته، وبعد عدة أيام من البحث عنه عثرنا على سترته في مجرى الماء وستبقى معي ذكرى وعنوانا للظلم الذي حل بولدي من جنود جيش الولايات المتحدة الأمريكية، الذين جاءوا إلى بلدنا وهم يرفعون شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية، وإذا بهؤلاء الجنود وبدم بارد وبأعصاب جامدة يزفون ولدي إلى حتفه في أيام عرسه.
وكي أوثق الحدث فإن ابني اسمه (زيدون مأمون فاضل حسون السامرائي)، من مواليد 1/ 6/1984، نعم قتلوه وفجعوني به، وتصوروا أيها السادة واسألوا زوجاتكم كم هو عسير على كل أم أن ترى ثمرتها وقد نضجت، ثم تهوي به يد أثيمة لتلقي به في هذا السيل الجارف دون رحمة أو إنسانية، لقد أحال الجنود كل ما قالته أمريكا عن حقوق الإنسان إلى كذبة كبيرة أو جثة هامدة كنت واحدة من ضحاياها وهم كثيرون، لذلك أتوجه جميعا وإلى السيدات الفاضلات عقيلاتكم وإلى الرئيس جورج بوش خصوصا لفتح تحقيق في ملابسات الحادث، على الرغم من أن أي إجراء سيتخذ من قبلكم لن يعيد ابني إلى الحياة، ولكني بإحساس عارم بالفجيعة أتطلع إليكم عسى أن يوضع حد لآلام الأمهات في بلدي فنحن نحصد البؤس والشقاء لما يفعله جنود جيش الاحتلال الأمريكي دون مراعاة لحياة الإنسان وكرامته ولقيم المجتمع وتقاليده، ولعل اتخاذ الإجراءات بشأن الحادث يعيد لي شيئا من المصداقية حول الشعارات التي ترتفع عاليا في أمريكا ولكننا لا نلمس منها شيئا بل نحصد النقيض لها في بلدنا، ولعل في هذا التحقيق ما سيدعم قوة القانون حتى لا يأتي يوم يصحو فيه ضمير أحد القتلة ويعترف بتفاصيل فعلته وحينذاك ستكون مسؤوليتها على عاتق بلدكم، وأنا على يقين بأنكم تعرفون الإرهاب وما يندرج في قائمة الأعمال الإرهابية، فهل سمعتم أو اطلعتم على عملية إرهابية أبشع من هذه الجريمة التي ألحقها جنودكم بسحق السيارة وتسويتها بالأرض بواسطة آلياتهم الحربية في رسالة موجهة إلى أسرتي الفقيد وابن عمه مروان كي تتأجج مشاعر القلق لديهما على مصير ولديهما، هذا سؤال أوجهه لكم وللمجتمع الإنساني وقد انتظر منكم جوابا شافيا..
المفجوعة بولدها
أم الضحية زيدون مأمون فاضل حسون السامرائي
سامراء
9 / 1/ 2004