يوميات مسافر على طريق أحمر

الجزء الخامس

فتح ملف التحقيق

وقف أبناء مدينة سامراء وقفة واحدة في التفاعل والتعاطف مع أسرة زيدون واستنكار الجريمة الأمريكية التي هزت المشاعر والوجدان الإنساني لطبيعتها الوحشية، وتساءل كثيرون أحقا هذا هو ديدن الغرب الذي يطرح نفسه حاميا للقيم الإنسانية حتى في التعامل مع الحيوان، وإذا به يقفد آخر ما تبقى عنده من قيم في تعامله مع الإنسان وبهذا الأسلوب الذي تأباه حتى الوحوش في غاباتها.


تقاطر المئات منهم إلى مجلس الفاتحة من دون انقطاع وحتى بعد انتهاء مجلس العزاء المعتاد ظل بيت الحاج فاضل حسون مكانا تأتي إليه شرائح المجتمع من كل الأعمار والطبقات ومن كل التوجهات.
بعد انتهاء الأيام الثلاثة لمجلس الفاتحة، بدأنا نتحرك لإيصال رسالة أم الشهيد إلى العناوين المثبتة فيها ولم تكن الاتصالات متاحة لنا بنفس القدرة المتاحة حاليا أو على الأقل لم نتعود على استخداماتها المختلفة، كان مبنى قائممقامية قضاء سامراء محتلا من قبل القوات الأمريكية وتُعدّه تلك القوات بمثابة “منطقة خضراء مصغرة”، ولكن المجلس البلدي لسامراء كان بالإمكان الوصول إليه، وكان جميع أعضاء المجلس غاضبين على الجريمة وكانوا متعاطفين معنا، وبقي المرحوم “حازم عبد الكريم الياسين” على اتصال معنا طيلة الأيام السابقة، كان أملنا محدودا في وصول الرسالة إلى الرئيس الأمريكي قائد الجمع الضال في العدوان على العراق، وحتى في حال وصولها فإنها لن تكون ذات نفع ذلك أن منطق الغطرسة والتعالي الذي جاء به الغزاة كان يعني استهتارهم بكل القيم العليا التي يعتز بها بنو البشر، فقد تدنت بهم حيوانيتهم إلى مستوى مبتذل لا يمكن أن يخطر على بال.
لم نطلب تعويضا ماليا عن ابننا الشهيد واعتبرناه أكبر قيمة من أمريكا وما تملك، ومن جهة أخرى كنا على يقين بأن الإدارة الأمريكية لن تسمح بتجريم جنودها مهما كانت جريمتهم ومهما كانت الأدلة قاطعة، لكننا في الوقت نفسه عزمنا على المضي في إيصال صوتنا إلى الرأي العام العالمي وإلى الصحافة الأمريكية والأوربية، في تحرك على محور القيادة الميدانية الأمريكية في سامراء والتي كانت تتخذ من سايلو الحبوب الواقع على الطريق السريع المؤدي إلى تكريت وتحتل ببعض وحداتها مقر قائممقامية قضاء سامراء الواقع عند مدخل المدينة، وقد راجعنا هذا المقر ثلاث مرات بناء على طلب الجانب الأمريكي من دون أن نخرج بنتيجة، وكان الأمريكيون يتفنون في ممارسة الضغوط علينا لوقف متابعتنا للقضية وإرهابنا بما عرف عنهم من عنجهية وغطرسة، ولكننا صممنا على عدم التخلي عن حقنا مهما تعرضنا له من صعوبات، وكان الضباط الأمريكيون ينفون أية صلة لهم بالحادث، ولكننا أكدنا إصرارنا على متابعة التحقيق ورفض ادعاءات الجانب الأمريكي.


في موقف مفاجئ تطوع أحد الضباط من أبناء سامراء من الذين أعيدوا للخدمة بعد الاحتلال، لتقديم المساعدة في الوصول إلى القائد هناك، ربما كان مدفوعا بروح المدينة والتعاطف مع أبنائها إذا أصابتهم مصيبة، وربما هي محاولة منه للتغطية على أدواره الأخرى في التعاون مع المحتلين وفي إلحاق الأذى بأبناء سامراء الذين هبوا للدفاع عن وطنهم ضد قوات الاحتلال.
كان اسم القائد الميداني الأمريكي “غونزاليس” وهو آسيوي مضرب بأصول أمريكية لاتينية، وكان برتبة عقيد وكان سيء الأدب فضاً ومتعجرفاً إلى أبعد الحدود مستنسخا الهمجية الأمريكية في التعامل مع الهنود الحمر، ذهبت مع أخي مأمون والد زيدون والضابط السامرائي، والتقينا القائد الأمريكي بموعد مرتب مسبقا، سلمناه الرسالة وحينما قرأها بمساعدة المترجم امتقع وجهه وفقد هدوءه وأخذت عباراته تشتد مع الوقت وحاول تهديدنا بالاعتقال، من بين ما قاله، كيف تسمحون لأنفسكم أن تصفوا القوات الأمريكية بالصفات الواردة في رسالتكم؟ اتفقت مع الجميع أن أتحدث وحدي مع الجانب الأمريكي، وطلبت منهم عدم الدخول في أي حديث إلا في حال السؤال منهم وبعد أخذ موافقتي، أجبته بهدوء إن من كتب الرسالة أم فقدت ابنها وبالتالي لا يمتلك أحد الحق في يصوغ لها مشاعرها وعباراتها عن الكارثة التي حلت بها، ومن المستحيل أن تتمكنوا من مصادرة مشاعر الناس لاسيما النساء وعلى الخصوص الأمهات المنكوبات، لكن القائد لم يقتنع وواصل لهجته المتعالية، حينها قلت لهم هي في البيت فإذا أردتم اعتقالها فاذهبوا ولكن عليكم أن تعرفوا أن تقاليدنا الشرقية لن تسمح لكم أن تمروا إليها إلا على أجساد الرجال من أفراد الأسرة، وعلى هذا عليكم تحمل التبعات في أسرة غاضبة حد الاستعداد للموت، ومدينة متعاطفة مع هذه الأسرة من دون حدود، خاصة إذا تعلق الأمر بانتهاك حرمات البيوت والاعتداء على النساء، في مجتمع على استعداد أن يدفع آلاف الضحايا دفاعا عن شرف سيدة، عندها لمس مني لغة تهديد مبطنة، ولكنه مع ذلك لم يتراجع عن غطرسته فحاول إخافتنا بأن هذه الرسالة لن تقدم ولن تؤخر بل أنه يجزم أنها لن تصل وحتى في حال وصولها فلن تتخذ بشأنها أية إجراءات، دفعني ذلك إلى القول وبلغة واثقة، أظن أنه من الأفضل أن تفتح تحقيقا بالحادث فالأمر بذلك سيصلك قريبا وذلك أفضل لك لأنه سيظهرك بمظهر قائد يرفض خروج قواته على قواعد الاشتباك التي وضعها الجيش الأمريكي نفسه فالرئيس الأمريكي الذي سيجد نفسه محاصرا أمام قضية رأي عام، ثم إننا أوصلنا رسالتنا إلى الصحافة العالمية بما فيها الصحف الأمريكية، ولما لم نصل الى نتيجة غادرنا جميعا مكتب قائد منطقة سامراء على أمل أن يتم استدعاؤنا في أية لحظة لفتح باب التحقيق.

بمساعدة السيد بشير عبد الرحمن الخضير وهو نسيب عمي الدكتور شامل السامرائي، استطعنا إبراق الرسالة عبر شبكة الانترنيت بعد ترجمة نصها إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية، كما أرسلنا الرسالة إلى الصحف المحلية والعربية وقد نشرتها كما هي، وأوصلنا نسخة منها إلى قائد القوات الأمريكية في العراق، وتحركت من خلال علاقاتي الخاصة ومع الصحافة والفضائيات لفضح الجريمة، وفعلا جاء فريق تلفزيوني من شبكة الـ BBC في خدمتها التلفزيونية وأجرت لقاءات مع أفراد أسرة زيدون، وصَوَرَ الفريقُ المنطقةَ التي تم إلقاؤه منها إلى بوابة ناظم الثرثار على الرغم من الصعوبات الفنية التي وضعتها القوة الأمريكية المرابط على السد، كما أن عددا من الصحف البريطانية أسهمت في توسيع نطاق التعرف على تفاصيل الحادث، فقد أرسلت صحيفة ساندي تايمز إحدى الصحفيات العاملات فيها لمتابعة هذا الملف الذي رأته مهماً والذي يساعد على شهرة من يتصدى للكتابة عنه، بسبب الطبيعة الهمجية لهذه الجريمة، وأجرت الصحفية مقابلات مباشرة مع أم زيدون وأخوته وأخواته، وكانت لقاءات مؤثرة إلى حد بعيد، هذا الاهتمام البريطاني له ما يبرره، فبريطانيا شريك مهم في العدوان على العراق ويبدو أن الكثير من الصحفيين والسياسيين والمفكرين البريطانيين كانوا معترضين على مشاركة بلادهم في غزو العراق واحتلاله، أو على الأقل لإبراز الجرائم الأمريكية وتبرئة بريطانيا من آثام الجرائم التي تُرتكب في العراق، ودفع العراقيين لإجراء مقارنات بين فعل القوات الأمريكية في ساحة عملياتها والقوات البريطانية في القاطع الجنوبي في الاحتلال الحالي، أو باستذكار ما فعلته سلطة الاحتلال البريطانية في العراق أثناء احتلاله بداية القرن الماضي، وهذه المقارنة الساذجة بين شرين أيهما أهون، لا يمكن أن تمر بسهولة فكلاهما قوة احتلال ثم إن القوات البريطانية لم تحافظ على صورتها التي أرادت تسويقها إلى الأبد، فقد كشفت وثائق مؤكدة عن انتهاكات لحقوق الإنسان ضد مدنيين في مدينة البصرة مما أرغم رئيس الأركان البريطاني على الاعتذار لذوي الضحايا وأبناء محافظة البصرة، ووصف ما حصل بأنها أعمال مخزية، كما أن قناة الجزيرة القطرية بادرت لمتابعة الحدث وكل حسب طاقته وما تسمح به الظروف الأمنية للتحرك، الجزيرة أعدت قصة كاملة عن الحادث، وعلى الرغم من أن الحدث لم يأخذ حقه ومداه من التغطية في أجهزة الإعلام، فالصحف العربية لم تنظر إلى القضية على أنها صورة مصغرة لما يجري في العراق، بل نظر إليه البعض على أنه حادث منقطع.
كان من اللافت للنظر أن الصحافة الأوربية وبخاصة الصحافة الفرنسية والألمانية أغفلت ما حصل على الرغم من أننا افترضنا أن إعلام هاتين الدولتين سيكون أكثر حماسة وجرأة من غيره في متابعة حدث كهذا، وعلى الرغم من ذلك كله فإنني رضيت بتلك التغطية من دون أن افقد الأمل بتغطية أوسع وأعمق مع الوقت.
بعد بضعة أيام عشنا خلالها أحزاناً متواصلة جراء فقدان ولدنا وغطرسة القوات الأمريكية الغازية، وإصرارها على تعذيبنا، زارنا الضابط العراقي في المنزل وقال استعدوا للذهاب لمقابلة القائد الأمريكي الذي طلب حضوركم إلى مقر القيادة، حينما وصلنا كانت تقاسيم وجهه تنم عن سلوك آخر غير الذي عهدناه منه في المرات السابقة، رحب بنا وقال إن أوامر فتح التحقيق بالقضية قد وصلت من قيادة القوات الأمريكية، وأن السرجنت إرين سينترون (IRENE CINTRON) وهي مسؤولة في مكتب التحقيقات الجنائية العسكرية الأمريكية هي المكلفة بالتحقيق بالقضية وفتح ملف لها، بدأت سينترون بأحاديث إزالة التحسس منا تجاهها وطلبت منا مساعدتها على إنجاز التحقيق بأسرع وقت لأن قيادتها أمرت بذلك، وكبداية لفتح الملف قالت أنها تريد أن تذهب بنا إلى موقع الجريمة وإجراء معاينة ميدانية للتعرف على كيفية وقوع الحادث، وأجرت تحقيقا في موقع الحادث مع مروان وصورت الموضع من عشرات الزوايا والنقاط بالفديو.
استمرت حالات الاستدعاء إلى مقر قيادة القوات الأمريكية في السايلو لعدة مرات وفي أحد الاستدعاءات فوجئنا بالسرجنت سينترون تبلغنا عن طريق المترجم مايكل رحباني وهو جندي أمريكي من أصل لبناني كما يتضح من لقبه باعتذار رسمي باسم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عن الحادث، كان محتما علينا أن أسأل هل هو تعبير عن الأسف أم اعتذار رسمي، سألها رحباني فأجابت بثقة إنه اعتذار رسمي بكل تأكيد، وهنا تدخلت فقلت إن ذلك يعني تحمل المسؤولية الجنائية عن الحادث، قالت نعم ولكنكم أصررتم على رفض التعويض عن الفقيد، قلت نعم لأننا على يقين أن أي تعويض لن يكافئ خسارته، وقالت السرجنت سينترون إن قيادة القوات الميدانية أبدت استعدادها لتحمل جزء من تكاليف الدفن ومجلس العزاء الذي أقيم على روح الفقيد وكناية عن باقة زهور، لكنني بادرت لرفض هذه الفكرة على الفور لأنها يمكن أن تُفسر على أنها قبول لمبدأ التعويض المالي فنقل المترجم الرحباني ما قلته حرفيا إلى سينترون فردت بأن ذلك تفسير خاطئ وأقسم مايكل الرحباني بأن المبلغ ليس تعويضا وقرأ النص الذي تم بموجبه صرف المبلغ وقمت بتثبيت النص على وصل الاستلام.
مضت أشهر الشتاء والتحقت بها أشهر الربيع القصيرة ومرت كئيبة على العائلة وكان الجميع يتساءلون بعيونهم إن لم تفعل أفواههم أين وصل التحقيق؟ وهل هناك فرصة حقيقية لتطبيق العدالة؟ تطوع الكثير من الأقارب والأصدقاء لإثارة المزيد من عوامل القلق في النفوس، وبخاصة حينما يتبرعون بتفسير غرض المبالغ التي تسلمناها عن الشاحنة وحمولتها، وخاصة المبلغ الذي قيل بأنه مساهمة في مجلس العزاء وفسره أولئك على أنه تعويض عن الفقيد، كانت هذه الأفكار كفيلة بإثارة المواجع في النفوس فأصبحنا من فرط العطالة وانتظار الجديد نتلاوم بلا حدود وعلى كل شيء، حين لا يجد واحدنا من يلومه فإنه يبدأ بجلد نفسه ويوجه لها لوما جارحا وكأنه يضع ملحا على جرح غائر، وربما كان نصيبي من الحالة أكبر من غيري، هل ورطت نفسي في قضية كبرى مع الأمريكان الذين يمسكون بكل خيوطها؟ أم أن في الوقت متسعا كي يعتقد الجميع بأن ملف القضية ما يزال مفتوحا وأن القلق المشروع يجب ألا يحجب كوة الأمل عن رؤية بصيص الضوء، ولكن من فقد ولده ليس كمن فقد نظارته، فالولد خلاصة الوالدين إلى الحياة، إذن لا مناص من الإصرار على ملاحقة القضية عبر ما متاح تحت يدي من وسائل وكنت أهيج نارها كلما خبت.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى