التحقيق ينتقل إلى مطار صدام الدولي
امتدّ التحقيق لعدة شهور بين مكتب القائد الأمريكي في سامراء ومقر القيادة في تكريت ولم تتقدم آمالنا خطوة واحدة إلى الأمام حتى إذا انتهت شهور الصيف وجاء أيلول/ سبتمبر 2004 أملِنا أن القضية ستتحرك مرة أخرى، ولكن الصيف ما زال يضغط بوطأة حرارته على العراقيين وجنود الاحتلال على حد سواء.
يوم الثلاثاء 7 أيلول/ سبتمبر جاء مروان من سامراء حاملا معه تبليغا رسميا وخطيا وبتوقيع “المقدم إحسان عزيز الساجي” من قيادة ICDC “قوات الحرس الوطني” وهي القوات التي شكلها بول بريمر بالتنسيق مع من جاء مع الاحتلال، يطلب حضوره إلى منطقة مطار صدام حسين الدولي لحضور جلسة تحقيق مع الملازم الأول سافيل وهو آمر الفصيل أو السرية التي نفذت جريمة القتل بأوامر مباشرة منه، كان مروان وقبل أن يأت لبغداد قد اتصل بي وأبلغني بأن الشرطة أبلغته بالذهاب إلى منطقة السايلو لأمر هام، قلت له لا تذهب إلا في حال حصولك على تبليغ رسمي خطي، حرصا على سلامتك خشية من تصفية محتملة من جانب القوات الأمريكية أو المتعاونة معها، لإزاحة الشاهد الوحيد على وقوع الجريمة هذا ديدن المافيات التي تسعى لإخفاء الأدلة عن جرائمها حتى لو اضطرت لقتل شخص قريب منها، فكيف إذا كان الشاهد عراقيا وابن عم الشهيد زيدون وهي التي حاولت إضاعة أي دليل على ارتكابها للجريمة، وكذلك حرصت على ضمان قانونية أية خطوة نُقدم عليها أو نستجيب فيها للطرف الآخر، ونشطت الإشاعات مجددا بين الأقارب والأصدقاء في تفسير كل خطوة جديدة تحصل وحتى حين يحصل تأخير في الإجراءات الأمريكية فإن ذلك كان يستدعي تفسيرات تتراوح بين أقصى درجات التشاؤم وبين أعلى مراتب التفاؤل، السكون له نفس القدر من تأثير الحركة بإثارة عوامل القلق، البعض قال إن الأمريكان يريدون غلق القضية بأي ثمن البعض الآخر مضى أبعد وقال بأن الأمريكان مستعدون لدفع عشرين ألف دولار من أجل سحب القضية، كنت واثقا أن مأمون لن يقبل مبدأ التعويض حتى ولو وصل مليون دولار، ولكنني ما كنت لأنوب عنه من تلقاء نفسي في الإقدام على خطوة كهذه قد لا تأتي نتائجها كما أريد، ومع ذلك كان موقفنا فيه من الطبائع العشائرية الشرقية وفيه من تقاليد البداوة الكثير مما يرى الغربيون فيها تخلفا اجتماعيا تجاوزته الشعوب التي لا تتعامل مع قضاياها الكبيرة والصغيرة بقيم عشائرية أو استنادا إلى مبادئ أخلاقية، فالقوانين هي التي تنظم العلاقات بين الجماعات والأفراد بصورة متوازنة ولا تسمح الدولة لأية مجموعة من خارجها مهما كبر شأنها أن تنوب عنها في مباشرة واجباتها وصلاحياتها ووظائفها في فض المنازعات وإحقاق الحقوق ومن بين ذلك تثبيت مبدأ التعويض المالي، وحتى الإسلام لم يهمل هذا الجانب وأفرد له الكثير من المعالجات والحلول، والديات المالية جزء من تلك التعويضات، غير أن التعويضات الأمريكية كانت من الهزال مما لا يسمح لعراقي يعتز بكرامته وقيمّه ومكانة من فقد أن يقبل بها، الكل يعرف كيف فرضت الولايات المتحدة تعويضات بأرقام فلكية على الحكومة الليبية بسب حادث سقوط طائرة لوكربي إذ وصلت تعويضات الأمريكي الواحد إلى ما يقرب العشرة ملايين دولار، على حين أن ما تدفعه القوات الأمريكية عن ضحاياها من العراقيين كانت لا تزيد على 2500 دولار أمريكي، فهل جاء الأمريكي من كوكب آخر؟ وهل تم خلقه من غير الطين الذي خلق منه باقي البشر؟ وهل خرج من غير السبيلين الذي خرج منهما بنو البشر؟ أم هو التعالي وشعور الغطرسة والتفوق العنصري المغروس في نفوس منخورة من الداخل تريد التعويض عن هزيمة داخلية بالتعالي على بقية شعوب الأرض؟ أم أن منطق القوة المادية هو الذي يفرض نفسه على التعامل بين الدول والأفراد والجماعات على أساس ما تمتلك من أسباب القوة وأسلحة فتاكة؟ غير أن الأمر لا يرتبط فقط في جعل صورة الأمريكي في الخارج بهذا الاطار البراق، بل بسبب تقاعس حكومات الدول الصغيرة التي لا تجعل لمواطنيها قيمة إنسانية وتدافع عنهم في كل المحافل الدولية، حتى جعلت الدول الكبيرة تستخف بهم وتعاملهم معاملة تذكرنا بتجارة العبيد، ولكن من يتبنى قضايا العراقيين؟ هل هي السلطة التي تواطأت مع أشرار الأرض وساقطيه من أجل إذلال العراقيين، هل يمكن أن تدافع عنهم؟ محال فهي سلطة “ألعوبة” كما تسميها كل القوانين الدولية في تعاملها مع السلطات التي تشكلّها قوات الاحتلال، وبالتالي مرتهنة الإرادة لأولياء النعمة عليها ولمن جاء بهم من الأزقة المظلمة ومن المنافي ومن سراديب العمالة والعمل كوكلاء للدول الكبيرة والصغيرة التي تدفع لهم.
تحضرني هنا واقعة الاعتداء على طالب عراقي كان يتلقى علومه في بلغاريا وتم قتله هناك، وكيف انتفضت الحكومة العراقية التي كانت تجسد شموخ العراقيين وكبريائهم وكرامتهم عندما كانت السلطة الوطنية منبثقة من بين الشعب، فأرغمت الرئيس البلغاري على القدوم إلى العراق وزيارة عائلة الطالب العراقي القتيل وتقديم الاعتذار الرسمي عن تلك الجريمة، أما السلطة التي نصبها المحتلون الأمريكيون فهي ليست عاجزة عن التصدي للقمع الذي يتعرض له العراقيون على أيدي الجنود الأوباش المحملين بكل موروثات الحقد والكراهية للعراقيين خاصة وللعرب عامة، بل أن هذه السلطة هي التي كانت تشجع المحتلين على قمع العراقيين وتقترح على الأمريكان أساليب التعذيب المستوردة من فارس بحكم كون معظم رموز السلطة هم إيرانيو الأصل أو الولاء.
لو أن جميع العراقيين الذين فقدوا عزيزا منهم، رفضوا تسلم هذه التعويضات التافهة لاضطرت أمريكا لإعادة النظر بما تدفعه للعراقيين، على العموم كان علينا بموجب التبليغ أن نكون في مطار صدام حسين الدولي قبيل الظهر دون أن نعرف متى ستبدأ جلسة التحقيق فالفرق بالتوقيت بين بغداد والساحل الشرقي للولايات المتحدة يبلغ سبع ساعات، وهو أكثر مع توقيت المدن الواقعة في وسط الولايات المتحدة أو الواقعة على المحيط الهادئ، علما بأن فرق التوقيت بين نيويورك على الأطلسي وسان فرانسيسكو على الهادئ يبلغ ثلاث ساعات.
طريق المطار كان بمثابة خط مفتوح نحو الموت لكل العابرين عليه وبخاصة لأرتال القوات الأمريكية وهذا ما يثير فينا شعورا عاليا بالفخر والعز، إذ كانت المقاومة تسيطر على الطريق وتفرض على الحركة فيه رقابة صارمة فمن يذهب إلى المطار أو يأت منه إلى بغداد، فله خصوصية التعامل مع المحتلين إلى أن يثبت العكس، كانت المقاومة تنصب الكمائن لعجلات القوات الأمريكية بل وشنت في الطريق هجمات مؤثرة وشجاعة وبأعداد لا يتوقع الأمريكيون حجمها، وما يمكن أن تتركه من نتائج وخاصة في معنويات الجنود التي وصلت إلى الحضيض.
أعداد المقاتلين غير مألوفة لحرب الشوارع، كان هذا الطريق مصيدة للمحتلين فقدوا على كل كيلو متر فيه وعلى مدى عام ونصف مئات القتلى وآلاف الجرحى والكثير من المعدات، وأهم من كل هذا تصّفرت معنويات جنودهم فيه، ويكفي أن يعرف العسكري الأمريكي أنه مكلف بواجب في هذا الطريق حتى يفقد ما بقي له من رصيد أعصاب، ووصل الجنود حد الانهيار العصبي والمعنوي ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى ارتكابهم لأي جريمة ضد زملائهم وهذا ما وقع منه الكثير، وكانت البيانات الحربية الأمريكية عندما تتحدث تصفه بحادث غير قتالي، هؤلاء الجنود المدججون بالسلاح والذين يقتلون بدم بارد وأعصاب جامدة ويثيرون الرعب والهلع في الشارع هؤلاء ما أجبنهم حينما تحصل مواجهة بينهم وبين رجال المقاومة الذاهبين إلى الموت بلا تردد، تراهم يفرون من الموت كجرذان غبية ويجهشون ببكاء مرير ويشترون الحياة الذليلة بالتوسل والخضوع حتى ليعجب المرء من وضعهم في الحالين،.
ما هو هامش الشجاعة المتوحشة لديهم حينما يتعاملون مع النساء وكبار السن والأطفال؟ يتصرفون وكأنهم يؤدون أدواراً في أحد أفلام الاكشن الأمريكية التي تنتهي عادة برفع الأمريكي علامة النصر بإصبعين مفتوحين إلى الأعلى، فالأمريكي متفوق ولا يغلبه أحد على وفق ما تنتجه صناعة السينما في هوليوود، وخاصة فلم رامبو.
المرور العابر عند أي مفترق طريق في بغداد يشدّ الأعصاب ويثير في النفس مشاعر متباينة ويغلق الأبواب أمام الإدراك السليم، ويطلق المخبوء من الانفعالات المكبوتة من مكامنها أمام الموت، الحقيقة المطلقة الوحيدة، والتي لا مناص منها، ومع ذلك فإن الخوف منها يصل مديات تشل قدرة الإنسان على التحكم بسلوكه إلا من رحم ربي، فانتظار الموت وترقب وصوله يطغى على الخوف من الموت نفسه، وحين ينشر الموت جناحيه فوق أرض يحاول كل من هناك أن يغلق بابه دونه أو يفلت منه بجلده، قليلون هم الذين يفكرون بغيرهم في مثل هذه اللحظات، منهم من يجند إمكاناته وقدراته من أجل تقديم العون للآخرين، ولكن لحظة الوداع أصعب امتحان يواجه الإنسان، نعم يمكن أن تصدر عن المرء حركات تنم عن الرغبة في المشاركة في مصير واحد ولكن الاختبار إذا ما حل بأثقاله فقد يكون من المسلم به لدى الكثيرين التفكير بالنفس أولا مهما كانت درجة القرابة والصلة مع الغير في مشهد اللحظة الأخيرة.
شوارع بغداد الكئيبة والتي تشهد حركة بلهاء وفي مفترقات طرقها وأزقتها التي تنتهي عند نهاياتها كل المسالك، وحيث تحولت الأرصفة الموحشة إلى مقابر للحيوانات والأشجار وكتل الحديد وبعض أشلاء آدمية، واستحالت الطرق التي كانت إلى الأمس القريب مرصوفة بأحدث المعدات ومواد التعبيد إلى حفر وكأنها أرض محروثة متهيئة لموسم الغراس، نتيجة ما تركته سرف دبابات المحتلين من جروح وأخاديد على صفحة وجهها الناعم، كانت كلها تلتقي مع مدن العراق الأخرى عند هذه النتيجة المحزنة والتي لا تسمح بذرف قطرة دمع لفرط ما فيها من مياه آسنة اختلطت ببقايا دماء العراقيين وأعدائهم الأمريكيين مع شديد الأسف، ومع ذلك لم يكن أمامنا أنا ومروان من خيار إلا اجتياز طريق المطار وليرحمنا الله للوصول إلى مقر القيادة الأمريكية في قصر الفاو الرئاسي، كان الطريق أطول بكثير مما كان على حقيقته، لا ندري هل السرعة القصوى هي المطلوبة أم علينا أن نسير ببطء شديد لتجنب سوء التقدير من طرف المجاهدين الذين يستهدفون المارين على طريق المطار، وهل يا ترى سيتفهم من يرانا طبيعة المهمة التي نذهب من أجلها للمطار؟ عيون الناس تنظر إلى المارين عبر طريق المطار بتساؤل أكبر من ترقب قذيفة أو إطلاقة تبحث لها عن هدف، فالمطار قاعدة عسكرية أمريكية وليس محطة سفر، هل يصدق من يرانا هناك أننا نتابع قضية تحقيقية لولدنا الذي قتلته القوات الأمريكية؟ وهل على الجميع أن يعرفوا بالتفاصيل كي يتفهموا موقفنا؟ ثم هل نحن وحدنا الذين فقدنا ابنا ولماذا لم يحقق الأمريكيون بكل جرائمهم فلماذا حصلنا على هذا الامتياز؟ آه كم تمنيت ساعتها لو أن قصتنا قد انتشرت على طول الكرة الأرضية وعرضها كي تتفهم الأعين التي تختزن أسئلة حائرة سبب مرورنا في طريق المطار ومع أننا لسنا متهمين أمام أنفسنا على الأقل فليقرأ من يرانا المشهد على هواه، تساؤلات مرت سريعا وما يزال من طريق المطار أكثر من نصفه ولن تجدي هذه التساؤلات في عودة الساعة إلى الوراء ولا في قرارنا مواصلة الرحلة حتى النهاية، لنا حق نريد ملاحقته وإن طال السفر.
كنت أقود السيارة بسرعة وسطى وبهدوء حذر فكل الاحتمالات واردة، الأمريكيون الذين استدعونا للتحقيق هل نتوقع أنهم أحاطوا دورياتهم القلقة على طريق المطار علما بمجيئنا؟ استبعدت هذا الاحتمال فورا فهم لم يسألوا عن نوعية سيارتي ولا لونها ولا رقمها، في الطريق اعترضتنا أكثر من سيطرة أمريكية وضعت فيها آخر ما توصلت إليه مصانع الإلكترونيات في الولايات المتحدة من معدات وأجهزة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل جلبوا الكلاب المدربة التي تفحص كل ما يراد مروره، بعد أن وصلناها وقفنا في دورنا بطابور طويل لم نكن نعتقد أن المطار يستقبل كل هذا العدد من السيارات والمراجعين، كنا نتقدم ببطء شديد وبعد أن قطعنا حوالي 100 متر بدأ الجنود الأمريكيون بإصدار الأوامر، هذا يأمر بفتح الصندوق الخلفي، وهذا يأمر بإطفاء المحرك وفتح غطائه، جاءنا جندي يقتاد كلبا أو يقتاده كلب لا فرق فالأمر سيان، أخذ الكلب يدور حول السيارة وهو يؤدي واجبه الذي يتقاضى بسببه راتبا يفوق راتب الجندي الذي يقوده، أصدر الجندي لنا أمرا نيابة عن الكلب بالحركة بعد أن أصدر لنا شهادة التجرد عن المتفجرات والسلاح والعطور، بعد مسيرة قصيرة توقفنا مرة أخرى أمرنا بالترجل من السيارة وفتح غطاء المحرك مرة أخرى وفتح الصندوق ثانية وتسليم الهاتف المحمول، تذمر صامت يكاد يضيء من بين العيون أو يسمع صداه من بين الضلوع، تركنا السيارة لبضعة أمتار فهذه المرة يجب أن تفتش السيارة من الداخل بعيدا عن أعين ركابها، دخلتْ على الخط هذه المرة أجهزةْ أكثر تعقيدا من النقطة السابقة، أجهزة التحسس الكهربائي والتفتيش اليدوي المباشر لنا وللسيارة، في باحة الانتظار تقدم نحونا شاب بدت هيئته ملتبسة، بادرني السلام عليكم أستاذ نزار أنا معجب بما تقوله في لقاءاتك على الفضائيات المختلفة وبخاصة قناة الجزيرة، أجبته وعليكم السلام حاول أن يتسلل ولكنني عرفت أن سلامه كان رسالة تشكيك بطبيعة وجودي هنا أراد أن يكافئ وجوده هو في باحة الانتظار أمام مطار بغداد، هنا وجدت الظرف مناسبا أن أبادره بسؤال قد يفاجئه، قلت ماذا تفعل هنا؟ لم أسأله عن اسمه ولا عن منطقته ولكنني سألته السؤال الذي أيقنت أنه حينما سلم عليّ كان يريد أن يقول لي لقد ضبطتك متلبسا في جريمة الانتظار على أبواب مطار كان اسمه مطار صدام حسين، وبات اليوم مقرا لقيادة القوات الأمريكية المحتلة، تلعثم قليلا ولكنه لم يبال على كل حال، فأجاب أنتظر دوري للدخول إلى مقر عملي في خدمات المتاجر الأمريكية في القاعدة العسكرية بالمطار، إذن هو لا يخجل من عمله فهو لم يأتي لاهثا وراء الدبابة الأمريكية ولم يرفع سلاحه ضد مواطنيه، ولكنه ربما قاده ظنه أنني أشاركه أو أزاحمه في البحث عن وظيفة، ولهذا حينما سألني واستنادا إلى مبدأ المعاملة بالمثل، وأنت ماذا جاء بك؟ قلت أنا محام عن ابن أخي الذي قتله الأمريكيون برميه في نهر دجلة، واليوم نحن مطلوبون للتحقيق وربما للمحاكمة، لم يدعني أكمل عبارتي كان قد تلاشى وسط الزحام وبقينا بانتظار إشعارنا بأن تفتيش السيارة قد تم إنجازه في ساحة مكشوفة، بعد طول انتظار جاءتنا الإشارة باستكمال تفتيش السيارة فتوجهنا إليها من دون أن نعرف إلى أين نتوجه بعد ذلك.