يوميات مسافر على طريق أحمر

الجزء السابع

استمرار التحقيق في المطار

بعد أن أنهينا كل الإجراءات الأمنية في “جيك بوينت 1″، تحدثت مع بعض الحراس المتجهمي الوجوه هلعا ورعبا من قذيفة هاون أو سيارة يقودها “انتحاري”، وسلمتهم نسخة من كتاب الاستدعاء الرسمي الذي جئنا بموجبه، بعد سلسلة اتصالات ليست عادية أجراها المسؤول عن النقطة مع مراجعه، أخبرَنا أحدُ الحراس بأن مأمورا سيأتي إلينا بهدف إيصالنا إلى الموقع الذي طلبنا، كانت الساعة تقترب من الثانية بعد الظهر عندها جاءت سيارة شيفروليه صندوقية رباعية الدفع تتقدمها مدرعة من نوع هامر فيها إضافة إلى سائقها جندي يقف وراء مدفع رشاش سريع الطلقات كان منصوبا فوق المدرعة، وجندي يحمل بندقية من نوع M16 كان يجلس بجانب السائق.
بعد توقف الموكب ترجلت منه السرجنت سينترون حيث كانت تحمل بندقية آلية ومعها جندي يحمل بندقية آلية أيضا وكان كل منهم يرتدي صدرية مقاومة للرصاص، حتى المجندات الأمريكيات يحملن هذا النوع من البنادق، ولكن ماذا فعل جنود المارينز الأكثر شراسة مع رجال المقاومة كي تفعله سينترون؟ وجاءت مع السرجنت وحمايتها مترجمة قدمت لنا نفسها، قالت أنا سهام الجعبري سأكون المترجمة المرافقة لكم طيلة تواجدكم في القاعدة، أنا أمريكية الجنسية أقيم في كاليفورنيا، من دون مقدمات قلت لها أكيد أنت فلسطينية من الخليل؟ هزت رأسها موافقة على ما قلت، وكادت أن تطلق عبارة دهشة ولكنها أحجمت في اللحظة الأخيرة أمام سينترون، بعد ذلك حينما سرنا سوية داخل القاعدة العسكرية سألتني من أين عرفت أنني من الخليل هل وصلتكم المعلومات عني مسبقا؟ تعمدت عدم إجابتها من أجل أن أتركها قلقة حتى النهاية، ربما ذهبت لتصورات بعيدة وربما كانت قد همست بإذن مسؤولها الأمريكي عن ذلك، وربما قالت له إن حياتها في خطر لأن عراقياً على صلة بـ (الإرهاب) يعرف عنها معلومات دقيقة جدا، وقد تكون بالغت في تفسير ما سألتها عنه وأضافت من عندها الكثير كي تطلب النقل إلى موطنها بالتجنس وتتخلص من كوابيس الموت التي لا تنتهي في العراق المحتل.
بعد أن لاحظت القلق مرتسما على وجهها والكلمات التي تخرج من فيها، حرصتُ على الإيغال في ممارسة اللعبة التي جاءوا من أجل تنفيذها معنا، ولأنها من جيل جديد ولأنها انسلخت عن بيئتها الفلسطينية التي ما زال العراقيون الأصلاء يعتبرونها صنو َمحنة احتلال بلدهم، فقد طمس التغرب عن ذاكرتها أن رجل دين فلسطيني هو الشيخ محمد علي الجعبري على ما كان قد ترسخ في ضميرنا المشدود إلى القضية الفلسطينية، التي تأكل معنا وتشرب أن الجعبري شغل وظيفة رئيس بلدية الخليل، وكان جيلنا وخاصة في العراق ننظر إلى عمل كهذا على أنه تعاون مدان وطنيا وقوميا وحتى دينيا مع الاحتلال الإسرائيلي، وكان اسمه متداولا على مستوى الإعلام العربي والإسرائيلي على حد سواء، وكان ذلك في وقته يُعدّ كفرا سياسيا لا يمكن القبول به، ولو أجرينا مقارنة بين ما فعله الجعبري في ذلك الوقت وكان يعتبره تضحية لسكان مدينته المحتلة ودفعا للأذى الأكبر بالأذى الواقع على سمعته، وبين ما يحصل اليوم في كثير من الدول العربية، بل وما تفعله سلطة حماس التي تكاد تؤلّه قاتل الشعب العربي في العراق وسوريا ولبنان واليمن بمن فيهم الفلسطينيون في هذه البلدان المجرم قاسم سليماني، وتعتبره قيادة حركة حماس “الإسلامية”، شهيد القدس لوجدنا أن الشيخ الجعبري قد اجتهد ولم يتجاوز حد الإساءة إلى نفسه ولم يعتبر بن غوريون أو كولدا مائير أو شارون أبطالا أو شهداء القدس أو الخليل.
بعد أن رحبت بنا سينترون وأرادت أن تشعرنا بأنها حريصة على إنجاز قضيتنا، طلبت منا الصعود إلى سيارة الشيفروليه التي كانت تقودها بنفسها، أشارت إليّ أن أركب معها في المقعد الأمامي وتركت سهام الجعبري ومروان في الخلف، سألتني أين كنتم كل هذه المدة؟ وأردفت لقد بحثنا عنكم في سامراء وطلبنا من شرطة المدينة إحضار مروان ولكننا كنا نواجه بقولهم بعدم القدرة على الوصول إليه، تدخلتُ فورا لأقطع الطريق على مروان من الحديث، قلت نعم لقد أبلغونا أكثر من مرة ولكننا كنا نصرّ على أن يكون طلب الاستقدام خطياً ورسمياً من الجانب الأمريكي بالذات لأننا لا نطمئن إلى التعاون مع أدوات صنعتها أمريكا، ولهذا كنا نُهمل مراجعات الشرطة العراقية وطلباتها، نحن لا نتحرك من دون تدابير أصولية وعليها أختام رسمية، وافقتني على هذا الرأي وقالت يُسعدني أن أعمل في قضية طرفها الآخر يعرف ماذا يريد.
على الطريق استأنفت سينترون الحديث مرة أخرى فقالت، اليوم مهم بالنسبة لكم فسوف تُعقدّ جلسة استماع عبر قناة تلفزيونية مغلقة مع هيئة التحقيق العسكرية المكلفة بالقضية في كولورادو، سيتم إحضار الملازم سافيل أمام قاضي التحقيق وسنكون نحن في إحدى قاعات قصر صدام حسين والذي تتخذه قواتنا مقرا لقيادتها، سنجلس في هذه القاعة التي تُجرى فيها مؤتمرات عسكرية على أعلى المستويات مع البنتاغون أو القيادات الأخرى في الولايات المتحدة مع قائد القوات الأمريكية في العراق وهيئة أركانه، سنجلس أمام شاشة نرى فيها هيئة المحكمة وستُنقل صورنا لهم ضمن دائرة تلفزيونية مغلقة عبر الأقمار الصناعية، ولكن الجلسة لن تبدأ قبل الثامنة مساء بتوقيت بغداد، تساءلت مع نفسي ما هي دوافع سينترون لتقديم العرض عن قاعة المؤتمرات العسكرية بالوصف الذي قدمته وخاصة عندما قالت “مؤتمرات عسكرية على أعلى المستويات”؟ قلت مع نفسي هي مجرد ثرثرة أرادت أن تقول لنا إنها قريبة من مواقع التحكم بالقرار وصنعه في هذا المقر، وربما أرادت شيئا آخر لم تصرح به في ذلك الوقت.
كان مروان هو الشاهد الوحيد على جريمة أرادها الأمريكيون جريمةً كاملة ولكن إرادة الله كانت لهم بالمرصاد، وكنت محاميا عن العائلة بعد أن انتميت إلى نقابة المحامين بعد احتلال العراق عام 2003، عندما حلّ بول بريمر الحاكم الأمريكي المطلق للعراق في الأيام الأولى لتعينه بمنصبه، الكثير من المؤسسات والدوائر الرسمية وفي مقدمتها حزب البعث العربي الاشتراكي والجيش العراقي وديوان رئاسة الجمهورية الذي كنت مديراً عاما فيه ووزارة الثقافة والإعلام، أما الصحافة فهي مهنتي المحببة، فقد مارستها منذ عام 1963 وانتميت إلى نقابة الصحفيين نهاية 1970 أو بداية عام 1971، ولكن الاحتلال قلصّ من حريتي في النشاط الصحفي إلى أدنى حد، فقد كان هامش عملي محدوداً في الظهور على الفضائيات العربية وبخاصة قناة الجزيرة والإخبارية وأبو ظبي وقنوات أخرى.
لم أكن قد اتخذت المحاماة مهنة لي فأنا صحفي ولا يمكن أن أوفق بين اختصاصين، فضلاً عن أنني أفضل العمل الصحفي على أية مهنة أخرى، صحيح أنهما يشتركان في الدفاع عن قضايا المظلومين، ولكن الصحافة تُقارع الظلم العام بصوت عالٍ وعلى الهواء الطلق، على حين أن المحاماة تقارع الظلم الخاص وراء أبواب مغلقة، ومع ذلك رأيت نفسي مدفوعا بكل طاقتي لهذه القضية لاعتبارات كثيرة أولها أن الشهيد ابن أخي وثانيا أن الجاني الأمريكي فيها ارتكب جريمة احتلال العراق التي أواجهها في حركتي الإعلامية والسياسية، وثالثاً أنها تسلط الضوء على الجرائم النوعية لقوات الاحتلال وتفضح أساليبه الهمجية في قتل العراقيين أو تعذيبهم وكذلك عمليات الدهم والسطو على الأموال الخاصة أثناء تفتيش المنازل بعد أن سطا على بلد كامل ونقل موجوداته كلها إلى الولايات المتحدة، وأستطيع إيصال ما أحصل عليه من معلومات إلى أجهزة الإعلام في لقاءات تلفزيونية قابلة للانتشار على أوسع نطاق أو في ما أنشره من مقالات في الصحافة العراقية والعربية، وهنا يحصل التقاء بين الصحافة والمحاماة، ظننت أنني كنت أدافع عن كل عراقي مظلوم من قبل قوات الاحتلال والسلطة المنصبّة من جانب الاحتلال.
اليوم إذن سنشهد جلسة تحقيق مع مجرم أمريكي يستحق وصف القاتل الوغد أو أي وصف آخر يليق بفعلته الدنيئة، لأنه ابتكر طريقة للقتل ربما لم تخطر ببال أحد من قبل، مع أننا اكتشفنا أن سجن أبي غريب كان وعاءً لعمليات الإيهام بالإغراق، لكن سافيل اختزل الطريق وراح إلى الإغراق الحقيقي، إنه الملازم الأول سافيل، كنت احذف متعمداً من اسمه حرف الياء، لأن ذلك ما يتطابق مع طبعه وسلوكه، كان سافيل قد أصدر أوامره لجنوده بإلقاء زيدون ومروان في نهر دجلة عند بوابة ناظم الثرثار من دون أن يكون هناك سبب يدعوه لهذا الفعل الشنيع، كان علينا أن ننتظر بضع ساعات قبل أن يحين موعد الجلسة، كانت السرجنت سينترون حريصة على التحدث بود لافت وفائض عن الحاجة، وذلك لإزالة أي أثر للتحسس تجاه الجنود الأمريكان الذين احتلوا منطقة المطار بكاملها والذي كان عند انتهاء تشييده مفخرة عمرانية للعراق، واتخذت قيادة القوات الأمريكية في العراق من القصر الرئاسي في الرضوانية مقرا لها.
كان وقت الغداء قد حان وجهت لنا سينترون دعوة لتناول الطعام في المطعم المشترك للضباط والجنود، وهو نفسه الذي كان الرئيس الأمريكي بوش الابن قد تناول فيه الديك الرومي مع ضباط قواته وجنودها نهاية العام الأول للاحتلال وقد جاء إليهم خلسة من أجل رفع معنوياتهم المنهارة جرّاء الضربات المهلكة التي كانوا يتلقونها من قبل رجال المقاومة المسلحة، ثم كرر هذه الفعالية عندما جلب معه نوري المالكي الذي نصبّه بول بريمر في غفلة من الزمن، رئيسا لوزراء العراق هذا البلد الكبير الذي أراد بريمر إذلاله بجلب رئيس وزراء ما كان يطمح يوما بوظيفة تزيد على رئيس ملاحظين لو كانت السياقات السياسية والإدارية تسير على أقدام سليمة، ولكن هذا ما حصل، فجلبه بوش الابن معه وتناولا الطعام بما فيه الديك الرومي وسط حشد من الجنود الأمريكان، ولم نسمع أنه سأل مضيفه الاجنبي فيما كان لحم هذا الديك مذبوحاً على الطريقة الإسلامية أم لا؟ نعم هذا هو نوري المالكي الذي يطالب هذه الأيام برحيل القوات الأمريكية ونسي فضلها عليه أن جاءت به من أزقة السيدة زينب في دمشق وجعلت منه متحكما بثروات أغنى بلد في المنطقة، ونسي أيضا كيف وضع اكليلا من الورد على قبور قتلى الجيش الأمريكي أثناء احتلال العراق ووصفه لهم بأنهم شهداء، حينما تذكرت ذلك أخذتني غصة ألم أن أرى أرض العراق تُدنس من قبل قوات الاحتلال البغيض، لاحظت سينترون ذلك عليّ وتساءلت عما أفكر فيه، قلت إنني أعجب لهذا الزمن الذي تدور دواليبه بسرعة لا توصف وبصورة لا تُصدق، وكيف تحول متسول السيدة زينب إلى ما يسميه بعضهم من الضعفاء إلى (رجل العراق القوي).
استحثتنا السرجنت سينترون على تناول وجبة الغداء قبل أن يتم استدعاؤنا إلى القاعة، من ذا الذي يرغب بتناول الطعام على مائدة عدوه قاتل أبنه؟ أردنا أن نجلب شيئا نسد به الرمق لا غير، كانت الأطعمة معروضة للجميع على موائد طويلة، والخدمة في المطعم تتم بموجب قاعدة اخدم نفسك بنفسك، كانت الخُضّر والفواكه لكل المواسم جلبوها لجنودهم كي يُشعروهم بأن قيادتهم بقدر ما تزج بهم في معارك قد تنقلهم إلى بلادهم ملفوفين بالعلم الأمريكي، فإنها على استعداد أن توفر لهم أعلى درجات الرفاهية وتجلب لهم الخضر والفاكهة من القارات الخمس، حينما توجهت إلى (البوفيه) تقدم نحوي جندي تبدو على ملامحه سحنة شبه القارة الهندية، وبادرني بعبارة السلام عليكم، هل تريد أكلاً حلالاً؟ قلت له نحن نتناول الأسماك فقط، أشار إلى موضع الأسماك وخاصة الروبيان وبحجوم وأصناف مختلفة.
عندما كنت اتنقل داخل قاعدة المطار التي حولها المحتلون إلى قاعدة جوية لهم ومركزا للقيادة، وجدت أن الأمريكان كانوا يتعمدون في تشغيل عراقيين في أعمال خدمية مثل التنظيف ورفع القمامة وربما هناك أعمال أخرى حقيرة لم تظهر على السطح، كان هدف الأمريكان إذلال العراقيين بأي شكل، وحرق أوراق سمعتهم أمام المجتمع والمقاومة المسلحة التي كانت تنظر إلى كل من يعمل مع المحتلين كأنه جاسوس لهم.
مقر القيادة الأمريكية في قصر الفاو في الرضوانية من أطراف بغداد الغربية وهو قريب من مطار بغداد واستغرقت السيارة من المدخل الخارجي للمطار حتى الوصول إلى بوابة قصر الفاو عدة دقائق، وهو أحد القصور الرئاسية في عهد الرئيس الراحل صدام حسين وربما يكون هو الأكبر والأفخم بين تلك القصور، وقد أخذ اسمه من اسم مدينة الفاو التي احتلها الإيرانيون في شباط 1986 وغيروا اسمها إلى الفاطمية، وأقاموا فيها من التحصينات والمواقع والموانع مما ظنوا أنها مانعتهم من الهزيمة، وقال رفسنجاني حينها إذا استعاد العراقيون الفاو فسأذهب بنفسي إلى بغداد لتقديم التهنئة للرئيس صدام حسين، فاستعد العراق شعبا وجيشا وقيادة بوضع خطط تحرير هذه المدينة التي دخل منها الإنكليز بداية زحفهم نحو بغداد في العقد الثاني من القرن الماضي وجاء الإيرانيون ليقتفوا خطواتهم، فالمحتلون يفكرون بطريقة واحدة ويسلكون الطرق نفسها، وحتى عندما جاء الأمريكيون عام 2003 قاموا بالشيء نفسه، وعمل العراقيون بكل جهدهم لتحرير مدينتهم من دنس الإيرانيين، فتم لهم النصر المؤزر في17 /4/ 1988 بعد أن سحقوا قوات العدو وكسروا عموده الفقري حتى استلقى جاثيا على الأرض بذلٍ وتجرع كأس السم راغماً واضطر لوقف إطلاق النار في 8 /8 /1988، فأطلق الرئيس الر احل صدام حسين رحمه الله، على هذا القصر اسم الفاو تيمنا بنصرها المجيد، وعلى الرغم من أنني لم أر هذا الصرح من قبل ولم يسبق لي أن رأيت أيا من القصور الرئاسية الأخرى باستثناء القصر الجمهوري في كرادة مريم الذي رأيته لعدة مرات فيما مضى، وهو البلاط الملكي تحت الإنشاء الذي كان منتظرا أن يُقيم فيه الملك فيصل ويتخذه مقرا رسميا له، عندما قامت ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 لم يكن القصر قد أُنجز بعد، ولم يتم الانتقال إليه إلا بعد ثورة 14 رمضان/8 شباط فبراير 1963 حينما تحول اسمه إلى (القصر الجمهوري)، وهو المقر الرسمي للدولة العراقية، ووقعت في أسر القوات الإيرانية في 24 آذار/ مارس 1982 ولم يكن هناك قصر رئاسي رسمي سواه، وحينما عدت من الأسر في 22 كانون الثاني/ يناير 2002 لم يكن ميسورا لي أن أدخل إلى أي من القصور الرئاسية بسبب ظروف العراق الاستثنائية التي كان يعيشها قبيل الغزو الأمريكي وعبث لجان التفتيش التابعة لأمريكا وترفع علم الأمم المتحدة، ولذلك حينما أصف قصر الفاو بأنه الأكبر والأفخم فإنما أقارن بينه وبين القصر الجمهوري في كرادة مريم، وربما بما سمعته من مقارنات بين القصور الرئاسية.
على العموم لم يتعرض قصر الفاو لشيء من ظروف العمليات الحربية الكبرى التي شهدتها بغداد ومنطقة المطار بشكل خاص، ولكن الكثير من محتوياته كانت قد اختفت نتيجة السرقات التي قام بها الجنود الأمريكيون ونقلوها إلى بيوتهم في الولايات المتحدة تحت لافتة أخذ تذكارات من زمن الحرب وخاصة ما خف وزنه وكانت قيمته المالية أو الفنية عالية.
عندما دخلت إلى باحة القصر شعرت بجلال تصميمه وفخامته التي تليق بعظمة تاريخ العراق وحضاراته العريقة والذوق الرفيع للرئيس صدام حسين، ولكنني تساءلت بمرارة هل بُني القصر كي يشغله أكثر أعداء من بناه كراهية له وحقدا عليه وعلى وطنه وهم الأمريكيون؟ وأرادوا المبالغة في التعبير عن هذا الحقد حينما حولوه إلى مقر لقيادة قوات غزو العراق واحتلاله، تتدلى من قبة القصر ثريا كبيرة من الكريستال النقي المشدودة مع بعضها بخيوط ذهبية اللون، ولتشكل وهجا متلاحق التلألؤ كأنها كوكبٌ دري، حينما دخلت باحة القصر قلت مع نفسي هي مفارقة الزمن الرديء الناتج عن الاحتلال أن أدخل القصر في وقت تُطبُق عليه قوات معادية للعراق وعلى كل مفاصل الدولة العراقية، ولم يتحقق لي أن رأيت هذا القصر في زمن سياسي كنت جزء منه وفيه، كان الألم يعتصرني وأنا أمشي في أروقة القصر لأن شيئا بنيناه وتحمّل الحزب وقيادته بسبب بنائه الكثير من النقد والتجريح من موتورين وباحثين عن أية ثغرة يتسللون منها لشتم النظام، ثم تحول في لمح البصر إلى سيطرة عدوّنا وكأننا ما بنيناه إلا لكي ينتقل إلى سيطرة أولئك الأعداء المملوئين كراهية وحقدا على العراق، وإذا مرقت من تحت تلك الثريا فكأنما مرقت تحت وهج الشمس وإذا سُلبتُ القدرةَ على مقاومة إغراء النظر إليها فلا بد من المسير فوق أرض رخامية من طراز خاص تُرغم الجميع على استذكار الآية الكريمة /قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة/ ،فهي أرض تلمع بصفاء رائق، يجب الاحتراز عند المشي عليها خشية السقوط.
من الخارج تحيط بالقصر حدائق ذات بهجة وبحيرات متلاحقة تربط بينها جسور هي أقرب إلى عيون المها بين الرصافة والجسر، وعلى الرغم من أن قوات الاحتلال لم تدخرّ جهدا للعبث بالقصر ومحتوياته وما يحيط به من مرافق بل وبالعراق كله فإن القصر بقي متألقاً بالحزام الأخضر الذي يحيط به بعد أن حولته أياد العراقيين من أراضٍ قاحلة إلى أجمل الجنان مما يصادف الإنسان.
صدام حسين لم يبن لنفسه قصراً واحداً وإنما كان يبني صروحا لبلده تعوضه عما فات من قبل، فكل ما كان يمتلكه العراق من موروث عمراني هو قصر الرحاب وقصر الزهور والقصر الملكي في سرسنك وآخر في مصيف صلاح الدين.
كما أن صدام حسين لم يفتح حسابا في البنوك الأجنبية ولو أن أحدا من أعدائه الأمريكان أو الفرس أو عملائهم، قد ضبط وثيقة واحدة تشير إلى ذلك لكانت الصحافة المرتبطة بالمحتلين الأمريكان والبريطانيين والإيرانيين وعملائهم من عناصر العملية السياسية الفاسدة قد سخرّت كل صفحاتها للحديث عن ذلك، إن بناء هذه القصور كان سدا لنقص كبير في المراكز الحكومية، فالعالم ملئ بعشرات الألوف من الجسور وبتصاميم مختلفة ومبهرة وملايين الكيلومترات من طرق “الهاي وي” الحديثة، لكن أحدا لم ينتبه إلى ارتباط الولايات المتحدة إلا بالبيت الأبيض في واشنطن وتمثال الحرية في نيويورك، وقصر الكرملين في موسكو، والاليزيه وبرج إيفل في باريس، وقصر باكنغهام الملكي في لندن، وعشرات القصور التاريخية في ألمانيا، أما في البلاد العربية فيبرز قصر القبة وقصر الطاهرة في القاهرة، ولأن العراق وعلى الرغم من ألقِ تاريخه لم يترك أثرا كشاهد على عهوده المتعاقبة فقد وجد صدام حسين أنه يجب عليه أن يترك للعراقيين شيئا من المآثر العمرانية الفخمة، وهم الذين لم يترك لهم الذين حكموهم قبلا شيئا منها.
كان الحصار الاقتصادي الدولي الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق باسم مجلس الأمن الدولي يضرب بقوة كل على كل ما يتعلق بحياة العراقي في مأكله ومشربه ودوائه، وحتى حليب الأطفال خضع لتقنين ظالم لم يعرف له شعب من الشعوب مثيلاً، ولكن القيادة توصلت إلى أن تنشيط حركة التشغيل في المجتمع من أجل ضخ موارد في الشارع العراقي، فبُنيت عشرات المشاريع العملاقة بخبرة المهندسين وجهود العمال العراقيين، ولعلنا لا ننسى الجسر ذي الطابقين والسد العظيم على نهر العِظيم، وعشرات الطرق والجسور والمجسرات مما ساهم في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، فضلا عن تأهيل مئات المصانع الكبرى التي تم تدميرها في عدوان عام 1991، وتنشطت الحركة الزراعية على الرغم من أن الولايات المتحدة لاحقت نشاط قطاع زراعة الحبوب في محافظة نينوى بكل حقد وخسة، فكانت تضرب حقول القمح بالمشاعل الحرارية بهدف إحراقها ومنع الاكتفاء الذاتي وتقنين المستوردات التي لا تخرج عن هيمنة الإدارة الأمريكية.
وصلنا إلى القاعة التي أعيد تنظيمها بحيث أصبحت القاعة الرئيسة لعقد المؤتمرات وعلى أعلى المستويات بين القيادة الميدانية للقوات الأمريكية في العراق ورئاسة الأركان الأمريكية في واشنطن وقيادة المنطقة الوسطى عبر قناة تلفزيونية مغلقة يتم خلال هذه المؤتمرات بحث المستجدات والخطط البديلة وذلك نتيجة التطورات الميدانية والخسائر المتزايدة للقوات الأمريكية في العراق، أخذ كلٌ منا مقعده المحدد له سلفا، أخذت استراحة لأدور خلالها وأنا جالس في مكاني في أرجاء هذه القاعة، والتي يمكن أن تكون قد شهدت كثيرا من المؤتمرات العسكرية التي أدارها الرئيس الراحل صدام حسين رحمه الله، لوضع الخطط التفصيلية وبدائلها التي تقتضيها المستجدات الطارئة من أجل مواجهة قوات الغزو الأمريكي التي تتخذ الآن من القصر مقرا لقيادتها العليا، نعم هذه القاعة تتخذها قوات العدو مكانا لعقد مؤتمراتها العسكرية، ولكن من أجل التصدي للمقاومة الوطنية المسلحة الباسلة، والتي تمكنت من إلحاق أكبر هزيمة عسكرية ونفسية بالولايات المتحدة منذ الحرب الفيتنامية، مع فرق حاسم وهو أن المقاومة العراقية كانت تواجه أمريكا بكل ثقلها من دون أن يمد لها الاتحاد السوفيتي يد الدعم أو الصين الشعبية، كما كان يحصل مع كفاح الشعب الفيتنامي لطرد الأمريكان من جنوب بلادهم، وعانت المقاومة العراقية من حصار شامل من جميع جيران العراق.
بدأ الفنيون بتشغيل شبكة الاتصال مع قاعة المحكمة العسكرية في إحدى القواعد في ولاية كولورادو، حينذاك فقط أيقنت أن الصيحات التي تعالت باللغة الإنكليزية والتي مهدت للربط الفني بين هذه القاعة وقاعة المحكمة في كولورادو أصبحت حقيقة مؤكدة، فالأصل أننا كنا نشك كثيرا بجدية الأمريكيين وبكل ما يقطعوه لنا من وعود وفي كل ما ينطقوه من كلمات أو في كل ما يخطوه من خطوات، فهم أعداء بلدنا ودمروه وسلموه لأعدى أعدائنا وهم الإيرانيون، وبدأت جلسة الاستماع، ومن طبيعة الأسئلة التي طرحها المحققون بدأت أتيقن بأن الجانب الأمريكي وفي سعيه للتنصل عن مسؤولية جريمته فإنه يستميت من أجل البحث عن ضحية أو شماعة يعلق عليها أسباب ما ارتكب جنوده من جريمة وحشية وكأنهم يسعون إلى تحويل مروان من شاهد إلى متهم، ولذلك كانت الأسئلة تركز على تحديد وقت وقوع الحادث، متى وصلتما السيطرة العسكرية عند مدخل سد الثرثار؟ لماذا تريدنا نعتقد بأن الجنود قد ألقوكما في الماء؟ وعشرات الأسئلة تتدفق بلا انقطاع حتى تصورت أن الهدف من طرح هذا السيل من الأسئلة ليس سماع شهادة مروان بقدر ما كان الهدف هو التشويش عليه علهم يمسكون برأس خيط يجعلون منه سياجا لحماية متهميهم، ولذلك كنت أشير إلى مروان بعدم التحدث معهم ما لم يتوقف المحقق عن طرح سيل الأسئلة التي لا علاقة بها بموضوعنا، من قبيل هل تتوقع أن جنودنا على استعداد لرمي شباب أحياء في فوهة سد مائي متدفق المياه؟ أو من قبيل هل تتوقع أننا ذهبنا إلى العراق من أجل تعريض حياة أبنائه للخطر؟ أسئلة غبية موجهة لعراقيين لم تنقصهم معرفة نوايا المحتلين لأراضي الغير على مر العصور، ولكنها لم تحرفنا عن المسار الذي رسمناه لأنفسنا خلال الجلسة التي انتهت بعد العاشرة ليلا بتوقيت بغداد.
السرجنت سينترون كانت في ظاهر القول تتظاهر بأنها ستبذل قصارى جهدها لإظهار الحقيقة وكانت تقول بأن هذه الجريمة لن تمرّ من دون عقاب وأنها لن تشعر بالراحة أبدا ما لم ينل الجناة عقابهم العادل، ولكن في نهاية الطريق، ظهرت عارية تماما عن ثياب الحرير الناعمة التي ظهرت فيها علينا، فقد تأكد لنا فيما بعد أنها رفعت تقريرا بحكم مهمتها كمحققة إلى مراجعها شككت فيه بوقاحة بأن يكون الجثمان الذي دفناه يعود لزيدون، ولكن وقت الأحكام الإنسانية لا محل له في لغة التخاطب بين غازٍ محتل وبين شعب يدافع عن وطنه، إذ تبقى سينترون جندية أمريكية مخلصة لبلدها سواء كان على حق أم كان على باطل.
بعد أن انتهينا طرأ تساؤل كيف سنعود إلى المنزل عبر طريق المطار؟ ماذا سيرسم في ذهنه من صور من يحمل بندقية أو قاذفة يترصد رتلا أمريكيا عن هذه السيارة التي مرت بهدوء في طريق طالما أرّق الجنود الأمريكان عند عبوره؟ كانت الأسئلة تتدافع داخل رأسي دون أن أوفق في جواب واحد على أي منها، وخاصة ماذا سيقول الناس لو اُستهدفنا بقذيفة دمرت سيارتنا وقُتلنا بها؟ هل يصدق أحدْ طبيعة المهمة الجهادية التي كنا فيها؟
عندما خرجنا من البوابة الرئيسية لقصر الفاو والذي كان يشع بأنوار الثريا العملاقة، غصنا في ظلام دامس وليل أسود وكأن الخطوات المعدودة الفاصلة بين البوابة والممر الخارجي مسيرة دهر قطعناها بين عالمين.
أخذتنا سينترون بسيارة الدفع الرباعي التي جئنا بها من البوابة الخارجية للمطار، وترجلنا في نفس المكان ومضينا إلى سيارتي الخاصة التي كنت قد تركتها في الموقف المخصص لسيارات الداخلين إلى المطار، أدرت المحرك وتوكلت على الله وبأعصاب مشدودة قطعت الطريق بأقل من نصف ساعة وكأنها نصف يوم، وجدت بيتي في حي العدل واقف على ساقيّه قلقاً.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى