بانتظار قرار الحكم
بعد رحلة طويلة ومتعبة جدا، رجعنا إلى بغداد عبر قاعدة علي السالم، من دون أن نحصل على وعدٍ واضح من الجانب الأمريكي في قاعدة فورت هود، عن الحكم الذي سيصدر عن المحكمة العسكرية في القاعدة المذكورة على العريف الأمريكي بيركنز الذي نفذ فصول الجريمة، على الرغم من أن المحامي شيفرز وزميلته أكدا بصورة قاطعة، بأن بيركنز سيدّان بارتكاب الجريمة، وأن العقوبة تعني طرده من الجيش وحرمانه من حقوقه التقاعدية، وتعميم اسمه على جهات كثيرة لمنع توظيفه، وقالا إن هذه العقوبة تعتبر قاسية جدا بكل المقاييس.
في اليوم التالي غادر مأمون ومروان إلى سامراء على هذا الطريق الذي يحمل ذكرى المأساة، بعد أن استراحا من عناء سفر متصل، وكنت أتلقى مكالمات هاتفية من داخل العراق ومن خارجه عن نتيجة المعركة القانونية التي دخلناها، وكالعادة في مثل هذه الظروف كنا نُواجه كثيرا من الأسئلة عما حصل خلال سفرتنا للولايات المتحدة، حينما كنا نجيب بأن الجلسة كانت للتحقيق وليس لمحاكمة المتهمين، كانت تعليقات المتصلين تُجمع على إبداء الأسى والأسف والدهشة في وقت واحد، ذلك أن التحقيقات قد أخذت وقتا طويلا جدا في قضية واضحة ولا ألغاز فيها أبدا، وكنت اقول لهم هذه تقاليد القضاء فى الدول الغربية، كانوا يُجرون مقارنات بين القضاء العراقي والقضاء الأمريكي فى سرعة الحسم، وبعد أن كنت أوضح ذلك تنتقل الأسئلة للقادم عن التدابير والإجراءات، وفي هذه النقطة بالذات نجد أنفسنا أكثر رغبة من غيرنا في معرفة ما ستؤول الأمور إليه لأننا أصحاب القضية.
اتفقت مع مروان أن يُبلغني بأي اتصال يتم من جانب الأمريكان معه قبل أن يُقدم على أية خطوة غير مدروسة، كنت أظن أن الأمريكان ربما يسعون للتخلص منه لأنه الشاهد الوحيد على جريمة لم يكونوا ليتصوروا أنه سيفلت من الموت، فإن لم يبتلعه ناظم الثرثار ويقذفه مع زيدون إلى الطرف الآخر، فإن الماء البارد في بداية شهر كانون الثاني/ يناير كافٍ لقتل من ينزل إليه، ولهذا فقد تعمّدت المجموعة التي نفذت الجريمة على البقاء لمدة ساعة تقريبا في حالة مراقبة لموقع الجريمة وإن عن بُعدْ لرصد المشهد وقتل من يتمكن من الخروج منهما.
واصلت حركتي ونشاطي على مستوى الصحف المطبوعة والفضائيات وحيثما أتيحت لي فرصة الحديث عن الجريمة، فقد كنت أطرح المعلومات القديمة وما يستجد من معلوماتٍ، وكنت في حالة انتظار الخطوة التالية.
بعد نحو شهر من عودتنا من فورت هود، اتصل بي السرجنت واتسون وهو مساعد لسينترون وأبلغني بالحضور إلى منطقة المطار لمراجعة السفارة الأمريكية مرة أخرى بهدف الحصول على تأشيرة جديدة لدخول الولايات المتحدة، ولكنني أوضحت أن هذا الطلب لا مبرر له أبدا وأننا نستطيع الذهاب إلى بوابة المنطقة الخضراء قرب جسر الجمهورية، وننتظر هناك لحين مجيئكم وتسلمون أسماءنا لشعبة الاستعلامات، وعندها سنتمكن من إجراء المطلوب بشكل اعتيادي، وأضفت لا معنى أبدا لمجيئنا إلى منطقة المطار ثم العودة مرة أخرى إلى بغداد فهذه رحلة شاقة ولا مبرر لها، وبعد نقاش لم يخل من تباين حاد في وجهات النظر، اقتنع بوجهة نظري، ومن المحتمل أنه لم يبت من تلقاء نفسه بذلك وهذا هو المرجح، وحدد يوم الخميس الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2004 موعدا للذهاب إلى السفارة. اتصلت بمأمون ومروان وطلبت منهما المجيء من سامراء، وكان السفر على الطرق الخارجية الرابطة بين بغداد والمدن الأخرى يحمل من المغامرة والمجازفة الشيء الكثير، بسبب انعدام الأمن على طول تلك الطرق وخاصة طريق بغداد سامراء، بسبب النشاط الذي تُمارسه المقاومة الوطنية المسلحة ضد قوات الاحتلال الأمريكي. كانت فصائل المقاومة تتحرك بمرونة عالية وتنقل نشاطها من مكان إلى آخر، لإرباك الخطط العسكرية الأمريكية المحتلة، وكانت ردود الفعل الانتقامية التي ترد فيها تلك القوات على المواطنين الآمنين المسافرين على الطرق الخارجية، عشوائية وكأنها تريد أن توصل رسالة للمقاومة بأنها ستؤلب المواطنين على المقاومة.
في اليوم المحدد ذهبنا إلى بوابة القصر الجمهوري في كرادة مريم عند جسر الجمهورية، وبعد انتظار طويل نودي بأسمائنا للدخول، وجدنا واتسون بانتظارنا في عربة عسكرية مدرعة، ومضينا معا إلى مبنى السفارة الذي كنا قد جئناه قبل عدة أسابيع للغرض نفسه، كانت المهمة هذه المرة أسهل من السابقة حيث أن السفارة “القنصلية” سبق لها أن ثبتت المعلومات الخاصة بنا في حواسيبها ولم تفعل أكثر من استخراج تلك المعلومات مع تغيير تواريخها.
بعد الانتهاء من هذه المهمة المزعجة حقاً والتي لم نرغب يوما في مراجعة سفارة بلد جاء بقواته عبر آلاف الكيلو مترات تحت لافتة نقل الديمقراطية وإقامة اقتصاد متطور في العراق بحيث أن بوش قال مرة “سأجعل من الحصول على تأشيرة دخول العراق أمنية” هذه الوعود التي اتضح زيفها وأن هذه الدعوة مجرد مسوغ للسيطرة على المنطقة، سألت واتسون عن سينترون فقال إنها أنهت خدمتها وعادت إلى الولايات المتحدة، وأنه شخصيا حل محلها في مهمتها القانونية، وسألته عن موعد السفر فقال إنه لا يعرف وعند توفر أية معلومة عنده سوف يخبرنا قبل وقت كاف من أجل الاستعداد للسفر.
بعد عشرة ايام اتصل بي واتسون وأبلغني بالحضور إلى المطار يوم السبت 4 /12 /2004 لغرض السفر، وعند الساعة الثالثة عصرا كنا عند بوابة القاعدة الجوية العسكرية الأمريكية في المطار، وبعد تكرار الإجراءات الأمنية عند البوابات المتعددة للمطار، وسلمنا حقائبنا لواتسون وجلسنا في صالة الانتظار مع ملاحظتنا بعدم وجود استعدادات حقيقية للسفر، وبعد انتظار طويل قالوا لنا إن السفرة تأجلت حتى الغد، وخيرونا بين المبيت في صالة الانتظار أو العودة إلى المنزل، من الطبيعي أننا اخترنا العودة للمبيت في البيت، وأكد علينا أن نكون في المطار عند الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي أي يوم الأحد 5 /12 وهذا ما حصل، غير أن طائرتنا لم تقلع إلا في التاسعة والربع مساء في حفلات تعذيب كان الأمريكيون يمارسونها معنا بهدف إدخالنا في منطقة الجزع، ولكننا كنا نلقي عليهم دروسا عملية في القدرة على المطاولة والصبر.
بعد أن أقلعت الطائرة وأخذت حركتها اللولبية بالارتفاع فوق منطقة المطار عادت بي الذكرى إلى أيام الشباب عندما كنا نرتقي درجات أجمل مئذنة إسلامية في العالم أي ملوية سامراء، من حيث طبيعة الحركة اللولبية، على كل حال وصلنا الكويت مرة أخرى حوالي العاشرة والنصف مساء، ومن هناك انتقلنا إلى مطار الكويت الدولي، ولكن المشهد السابق تكرر هذه المرة أيضا بكل فصوله وتفاصيله، وعجبت أن بلداً مثل الولايات المتحدة يقع في الخطأ نفسه مرتين وفي غضون خمسة أسابيع، فأية دولة متقدمة في كل شيء وعالية التطور هذه؟ قلت لواتسون لو أن بلداً مثل العراق ارتكب هذا الخطأ الذي وقعتم فيه ماذا كنتم ستقولون عنه وماذا ستطلقون عليه من الأوصاف؟ لم يعطِ جواباً عن السؤال لأنه كان مقتنعا بأن المشكلة سيتم حلها في غضون ساعات، وسنغادر على متن طائرة لاحقة كما حصل في المرة السابقة، ولذا فقد تم نقلنا إلى دار الضيافة في قاعدة الدوحة العسكرية الأمريكية في الكويت، وهذه القاعدة كانت بالأصل ميناءً بحرياً تجارياً كويتيا، وتم تحويله إلى قاعدة بحرية أمريكية.
استمرت الاتصالات خلال الليل مع السلطات الكويتية والتي كررت حجتها السابقة بأننا دخلنا الأراضي الكويتية بصورة غير مشروعة، وكأننا كنا نرغب بدخولها بأية صورة من الصور، أو كأن هذه السلطات تمسك بحدود الكويت من أطرافها، ولما وصلت الاتصالات إلى طريق مسدود، أبلغنا واتسون بأن السلطات الكويتية أبلغته بضرورة مغادرتنا الكويت فورا، من أجل ذلك تم نقلنا من القاعدة البحرية في الدوحة إلى قاعدة علي السالم الجوية وتم وضعنا تحت حراسة على وفق ما زعموا، وقابلنا آمر القاعدة وهو ضابط برتبة عقيد وطمأننا على سلامتنا، قال لنا بأنهم حريصون على التحفظ علينا لحمايتنا من الكويتيين لأنهم يعرفون نواياهم تجاه كل عراقي، فأبدينا استغرابنا من هذا الطرح من ضابط جاء إلى المنطقة للدفاع عن الكويت نفسها، ليس لأننا نعجب من عُقَدِ الكويتيين تجاه كل من هو اكبر منهم حتى في أسوأ ظروفه، وإنما لأننا سنكون في حماية أمريكية على حد زعمهم من عرب لم نشعر بخوف منهم في أي ظرف من الظروف، ومهما لوثت السياسة المشاعر والعقول، فهل يكون مَنْ قتل العراقيين ودمر كيان دولتهم بل وقتل ابنهم بتلك الطريقة التي لا ترد على بال إنسان سوي، أن يحرص على حياة أبيه وعمه بل وعلى من ألقي معه في اليم؟
أمر العقيد بترتيب غرفة نوم فجلبوا لنا ثلاثة أسرة على عجل، وكان سؤالنا الملّح، هل يصح لبلدٍ مثل الولايات المتحدة والذي يطرح نفسه أعلى قمة في التطور والتقدم الإنساني والعلمي والسياسي والقانوني، أن يكرر هذا الخطأ الكبير في قضية صغيرة بهذا المستوى، ولماذا لم تستفد السلطة المختصة من تجربة منعنا في المرة السابقة ولم تمضِ عليه إلا خمسة أسابيع؟ الكويت أرادت أن تستعرض معنا أهميتها وتمنع دخولنا إلى أراضيها في المرة السابقة وبعد تدخل قائد القيادة المركزية الأمريكية تم السماح لنا بالمغادرة إلى أمريكا، فما بال السلطة نفسها ترتكب نفس الخطأ مع نفس الجهة في غضون خمسة أسابيع؟ ترى ماذا كان سيقول الأمريكيون؟ بلدٌ فيه أهم مراكز الدراسات الاستراتيجية وبلدٌ يمتلك أكثر جامعات العالم تطورا وبلدُ أجهزة الكومبيوتر الأكثر تعقيدا وتطورا، لو أن بلداً عربيا كرر هذا الخطأ؟ ألا يعتبرونه فضيحة تنم عن غباء مستحكم ومركب؟ وينم عن بداوة وتخلف؟ أم أنهم سيعتبرونه سهوا يمكن أن يقع فيه الجميع؟ نعم هذه أمريكا عارية بالتجربة الميدانية الصغيرة، تم إشعارنا بأننا سنعود إلى بغداد بانتظار فرصة أخرى للسفر.
على العموم في الثانية والنصف من يوم الاثنين 6/ 12 أقلعت بنا الطائرة عائدة إلى بغداد ووصلناها في الرابعة وخمس دقائق، وكان طبيعيا أن تؤجل الجلسة مرة أخرى لحين جلب شهود حق الادعاء الشخصي.
رجعنا إلى بغداد ولم يبلغنا الأمريكيون عن موعد سفرنا البديل وإن قالوا لنا سنتصل بكم في وقت لاحق لإبلاغكم بالموعد، وطلبتُ منهم أن يتم الاتصال بنا قبل ثلاثة أيام كي تتاح لنا الفرصة للتهيؤ للسفر لاسيما وأن مأمون ومروان يسكنان في مدينة سامراء التي تبعد عن بغداد بـ125 كيلو مترا، وفي ظل الظروف الأمنية المعقدة وتنقل الأرتال العسكرية الأمريكية على الطرق الخارجية في العراق، وقطعها لمدد طويلة، فلا بد من إبلاغهما قبل وقت مناسب للانتقال إلى بغداد على الطريق نفسه الذي سار عليه مروان وزيدون في اليوم الذي سبق ليلة الجريمة الأمريكية.
ويوم 24 كانون الأول/ ديسمبر2004 اتصل السرجنت واتسون وطلب منا الحضور إلى نقطة السيطرة الأولى التابعة للمطار، ولم نعلم ما هو المقصود من هذه الخطوة الجديدة ولِمَ الذهاب إلى المطار مرة أخرى خاصة وأن واتسون لم يبلغنا بجلب حقائب السفر، وطالما أننا أصبحنا جزء من هذا المشهد فعلينا أن نذهب به إلى نهايته مهما عانينا من أعباء التحرك وطريقة الأمريكيين في التعامل معنا فلا بدّ من صنعا وإن طال السفر.
عدونا هو الذي يحدد المواعيد لنا على نحو مقرف ولا يخلو من محاولة الإيقاع بنا، إن لم يحصل ذلك بنيران قواته فبنيران المقاومة النشطة على طريق المطار، وبناء على مواعيد يفرضها عدونا نذهب إلى المطار ونعود منه فهو الخصم والحكم، ليس في جريمة قتل زيدون فقط وإنما في جريمة قتل مشروع العراق النهضوي الكبير، وكانت معاناتنا عند المرور على طريق الموت تتكرر وبصورة مؤلمة كلما ترافقت مع مشاعر البغضاء لجنود يرتهنوننا كدروع بشرية لحمايتهم أو لقتلنا معهم في حال لم نوفر لهم الأمن في طريق محفوف بكل الأخطار المحتملة وغير المتوقعة، ومع كل متر نجتازه ونشعر فيه بالطمأنينة تضغط علينا هواجس مئات الأمتار الأخرى بكل ثقلها.
وصلنا وانتظرنا مرة أخرى عند نقطة السيطرة الخارجية للمطار، ثم جاءنا واتسون وأخذنا إلى قصر الفاو الرئاسي الذي تحول إلى مقر القيادة العسكرية للقوات الأمريكية في العراق، كانت السيطرة على القصر بحد ذاتها، كابوسا مرعبا بسبب هذا السطو المركب في معناه المادي والاعتباري، وكنت أشعر بتوتر عصبي حاد كلما فكرت بأن هذا القصر الذي كان رمزا لشموخ العراق وانتصاره في الحرب مع إيران وحصرا رمز انتصار في معركة الفاو الذي حطمت آمال إيران في كسبها.
مع ذلك كنت أفكر مع نفسي ماذا لو سبقت قطعان الغوغاء وزحفت على هذا القصر قبل احتلال القوات الأمريكية له، وفعلوا به ما فعلوه في القصر الجمهوري في كرادة مريم وسائر الأبنية الحكومية التي سرقوا منها كل ما يمكن سرقته وما لم يتمكنوا منه أتلفوه بوسائل اشتهر بها أعداء التاريخ والحضارة الذين سكنوا بلاد ما بين النهرين “ميزوبيتاميا” ونقلوا إليه تقاليدهم وأخلاقهم وقيمهم التي جاءوا بها من أوطانهم القديمة، وبدلا من العيش بسلام في أرض السواد نقموا عليها وعلى شعبها، لأنهم من مجتمعات همجية في غاية التخلف وعندما يعجز شعب من الشعوب أو قبيلة من القبائل عن التعايش مع الانجازات الحديثة، فلا مناص من التآمر عليها وإزالتها من جذورها إن أمكن.
هؤلاء الذين استوطنوا العراق بحثا عن الخبز، لم يحبوا ماءه وهواءه فعملوا فيه كل منكر وخراب ودمار، فهل تستحق القوات الأمريكية منّا قليلا من الثناء، لأنها احتلت القصر في أولى ساعات دخولها إلى بغداد؟ ووفرت له الحماية كي تتخذه مقرا لها، على الرغم من أنها دمرت بلدا بكامله؟ هذا هو المحال.
هنا برزت أمام ذاكرتي التي أتعبها حب العراق وامتلكها بجدارة، حكاية قديمة من أيام الحرب العالمية الثانية، فبعد أن احتل الألمان باريس في نزهة سريعة، سارع المارشال فيليب بيتان بإعلان حكومة فيشي تحت الاحتلال الألماني، وحاول أن يبرر لنفسه اصطفافه الذليل مع قوات الاحتلال النازية بزعمه أنه خاف على باريس الجميلة وموجوداتها الحضارية من التدمير، فضحى بسمعته من أجل عظمة فرنسا، وتساءلت مع نفسي هل يمكن الفصل بين الشرف الشخصي والشرف الوطني؟ أي بمعنى أن خونة فرنسا لهم شرف وطني وحرص على بلادهم من عبث المحتلين في موجوداتها الثقافية والحضارية ومتحف اللوفر ومقتنياته من المآثر الفنية وبقية المتاحف الفنية والتاريخية و التي تزخر بها مدينة باريس، وقصر فرساي ومتحف نابليون وغيرها من الآثار؟ أم أن هذه الادعاءات التي طرحت لاحقا، كان الهدف منها تبييض سمعة من خان فرنسا وتعاون مع الألمان؟ بعد عدة عقود من حصول تلك الواقعة، وكأن من أراد الخروج بها على الملأ سعى للقول بأن فرنسا لم تنتج خونة و نفوسا مريضة وعقولا مستعدة لمد اليد للعدو؟
هل في العراق من بيتان واحد كان على استعداد للتضحية بسمعته من أجل الحفاظ على مصانعه ومنشآته التي أنفق عليها أموالا طائلة وجهدا استثنائيا وعرق أبنائه عبر السنين؟ أو على المتحف العراقي الذي يحكي قصة الحضارات التي تعاقبت على أرض الرافدين منذ سبعة آلاف سنة؟ أو المتاحف الفنية الحديثة التي نشرها الحكم الوطني في عموم مدن العراق، حتى تحولت بغداد إلى أعظم مشروع حضاري نهضوي وفني كبير تحت الشمس؟
على العكس من ذلك فإن من غزا العراق ومن مهدّ له الطرق للوصول إلى مدنه كان يحمل موروثا من الحقد التاريخي والاقتصادي والفني على كل شيء جميل في العراق، فتحركت معاولُ خونةِ الداخل لتحرق المكتبات العامة ومركز الوثائق العراقي الذي كان بمثابة ذاكرة عراقية حية، ولتدمر المنشآت الصناعية والطبية والأسواق المركزية “السوبر ماركت” ولتسطو على كل مؤسسات الدولة ومعسكراتها، وحتى الآثار القديمة في المتاحف تم العبث بها وتدمير كثير منها وسرقتها بهدف تهريبها إلى الخارج، وفُقدت الآلاف من اللوحات الفنية الثمينة من متاحفها، ومن أجل التغطية على جرائمها أحرقت الأبنية، ثم انتقلت العقول المريضة والضمائر الميتة والنفوس الحاقدة إلى النصب والتماثيل في مختلف المدن العراقية فأزالتها بالجرافات تنفيسا عن عقد مزمنة لم تشفها كل عمليات البناء الثقافي والتعليمي والعلمي الذي شهده العراق قبل الاحتلال.
ومع كل ذلك أُجزم بأن الفصل بين الشرف الشخصي والشرف الوطني في غاية الاستحالة ولا يعدو عن كونه محاولة بائسة لتلقين الحمار النطق أو تعليم السمك المشي على الرمال، فالخيانة واحدة وقد أكدت تجربة غزو العراق واحتلاله أن خونة الداخل كانوا أكثر إيذاء للعراق من كل جحافل الأعداء الخارجيين، فلا أحد منهم على الاطلاق برئ من جريمة تدمير العراق والإساءة إلى كرامته وسمعته، عندما اصطف الآلاف من الغوغاء والمخربين في شوارع بغداد وهم يحملون على ظهورهم أي شيء قابل للسرقة من أي مكان عام.
كما أن كل من تسلم مسؤولية وظيفية بعد الاحتلال، جاء من أجل استكمال تدمير العراق ولتحقيق ما قاله جيمس بيكر للأستاذ طارق عزيز، إن أمريكا ستعيد العراق إلى عصر ما قبل الصناعة، وهذا ما تحقق فعلا.
المهم كان سبب تبليغنا بالحضور إلى قصر الفاو هو لمجرد إبلاغنا بأن موعد سفرنا الجديد إلى الولايات المتحدة قد تقرر في يوم الثلاثاء 28 /12 /2004، ألهذا استدعيتمونا إلى المطار؟ ألم يكن ممكنا تبليغنا هاتفيا؟ تساءلنا عن ذلك بسخط ظهرت علاماته على وجوهنا، ولكن جوابا لم يصل أبدا، ورأيت أن سلوك الأمريكيين هذا يهدف إلى إصابتنا بالملل والسأم من الانتظار الطويل.