يوميات مسافر على طريق أحمر

الجزء الاول

هذه قصة استشهاد ابن أخي “زيدون مأمون فاضل” والذي اغتالته القوات الأمريكية في مثل هذه الأيام عام 2003 على 2004 وذلك بإلقائه في مقدمة بوابات سد سامراء الذي تتدفق مياهه نحو نهر دجلة، وهي الجريمة التي واجهت ردات فعل مضادة وقوية، وإحياء لهذه الذكرى الأليمة والمشرفة لأسرة الشهيد أعيد نشر القصة، على عدة حلقات.

قبل البداية
في 9 نيسان/ أبريل 2003 استكملت قوات الغزو الأمريكي البريطاني مع قوات من دول أخرى مثل إسبانيا وإيطاليا وأستراليا وكوريا الجنوبية وبولندا وغيرها، استكملت احتلال مدينة بغداد عاصمة الدولة العراقية ورمزها السياسي، وباشرت الولايات المتحدة بشكل خاص, وبخبث ورثته من الموروث الاستعماري البريطاني مصحوب بغطرسة الكاوبوي الأمريكي، برنامجها لتدمير النسيج الاجتماعي العراقي، مع كثير من العنجهية والتصورات الخاطئة عن إمكانيتها لفرض نموذجها الخاص على البلدان التي تحتلها، ورفض المقترحات الأخرى التي قدمت لها من دول شاركتها الغزو كبريطانيا التي تعتبر نفسها صاحبة الخبرة الأكثر عمقا وأكثر معرفة بالعراق لترتيب أوضاعه، لكن الولايات المتحدة أغمضت عينيها وسدت أذنيها عن كل مشورة ومضت في تجاربها الخاصة، على وفق المخطط الذي تظن أنه يخدم استراتيجيتها الإقليمية والدولية، فأطلقت القوات الأمريكية يد اللصوص والغوغاء والدهماء وقطاع الطرق المحليين والإقليميين والدوليين لتدمير ما بقي من مؤسسات بناها العراقيون بجهدهم وعرقهم وتضحياتهم عبر مسيرة امتدت لعشرات السنين، وفي الوقت ذاته أعطت لجنودها الحصانة لممارسة القتل من دون قتال ووضعت لنفسها قواعد اشتباك أجازت فيها استهداف الشيوخ والأطفال والنساء، فقتلت على الظنة والشبهة وقتلت في عمليات انتقام ميدانية انتقمت من العزل نتيجة عجزها عن مواجهة المقاومة الباسلة التي كانت قد انطلقت بُعيد أقل من أربع وعشرين ساعة على احتلال مدينة بغداد، العراقيون لم يقاتلوا أمريكا وحدها بل قاتلوها ومعها جيوش أكثر من عشرين بلدا، وحتى لو أنهم واجهوها منفردة فسيسجل لهم التاريخ فخرا أنهم قاتلوا أعتى قوة عسكرية عرفها تاريخ البشرية منذ أن عرفت الدول منظومات الجيوش والقوة المسلحة والخطط الحربية، ومنذ أن دارت على الأرض أولى حروبها، قاتلوا الولايات المتحدة التي كانت تمثل مركز الاستقطاب الوحيد في العالم ولم يتسولوا من أحد العون على الرغم من أن تقديم العون لشعب يقاتل من أجل تحرير بلده يعد أمرا مشروعا بل واجبا على الشعوب الحرة كلها، وعلى الرغم من أن العراقيين لم يبخلوا به يوما على أحد حينما كانوا يناصرون بلا منّة كل المنافحين عن حقوقهم وحرية بلدانهم في كل بقعة في الأرض تعرضت للاحتلال والقهر والظلم والحيف، وألحق العراقيون بالمعتدين أكبر الخسائر في الأرواح والمعدات في وقت قياسي من زمن المنازلة، نعم العراقيون لم يواجهوا إسرائيل ولم يواجهوا فرنسا، بل واجهوا العالم كله وهم مطوقون وممنوعون من الحصول على الدعم من أي طرف خارجي سواء كان عربيا أم غير عربي، ومع ذلك هزموا المشروع الكوني الأمريكي، وربما كانوا قد قاتلوا نيابة عن الإنسانية جمعاء ولو أن غزو العراق كان قد مرّ من دون ثمن باهظ دفعته أمريكا لكانت القوات الأمريكية تستقر الآن في الكثير من عواصم المنطقة ولكان العلم الأمريكي يرتفع فوق أبنية في كثير من عواصم العالم هي ليست سفارات أمريكية على أية حال، ولكانت واشنطن تستنسخ فيها تجربة الإدارة السياسية التي أقامتها في العراق على يد بول بريمر، وربما كان بول بريمر بما يملكه من حظوة عند الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، قد أصبح حاكما عاما للعراق وإيران ومنطقة الخليج العربي وبلاد الشام، ولكن العراقيين الذين تصدوا للمشروع الأمريكي بعزم ورجولة وشجاعة نادرة أوقفوا خطط الولايات عند بوابات العراق ولعق الأمريكيون جراحهم النازفة، واعترفوا بحوالي خمسة آلاف قتيل فقط، وهو رقم يفوق خسائر إسرائيل في كل حروبها على البلدان العربية، على الرغم من أن الأرقام الحقيقية للخسائر الأمريكية تقرأ أكثر من ثلاثين ألف قتيل وأكثر من 226 ألف جريح، منهم آلاف المعاقين ومن الذين يعانون من لوثة عقلية أو هم بحاجة إلى رعاية دائمة، هؤلاء لم يأتوا بنزهة للعراق وإنما صُور الأمر لهم على ذلك الأساس، بل قيل لهم بأن من طبع العراقيين أن ينحروا الذبائح لضيوفهم، وأن الزهور والحلوى ستنثر فوق رؤوس جنود الغزو وتحت سرف الدبابات الأمريكية المتقدمة نحو بغداد، وإذا بالذبائح تنحر ولكنها كانت من الجنود الأمريكان أنفسهم، وإذا بالدبابات تتطاير أشلاؤها نتيجة القذائف التي تطلقها زنود الرجال الثابتة أيديهم على سلاحهم، وإذا بغيوم فيتنام تتراكم فوق واشنطن، وإذا بالمقاومة العراقية تنجح في نقل المعركة من شوارع المدن العراقية إلى شوارع المدن الأمريكية مع كل نعش لقتيل أمريكي ملفوف بالعلم الأمريكي، ليترك له أصداء غاضبة على النزعة العدوانية الأمريكية، كان العراقيون يتحدثون عن خسائرهم بمرارة وهم شهداء عند ربهم ولكنهم يلحقون ذلك بذكر أرقام الخسائر الأمريكية كناية عن النصر وتخفيفا من غضبهم، أمريكا هذه ارتكبت جرائم تفنن في ابتداعها الضباط والجنود المرعوبون، ولكن هذه القصة التي بين يديك أيها القارئ الكريم جريمة من نوع خاص وهي تعكس الطبيعة السادية الهمجية لكل من ارتدى البزة العسكرية الأمريكية والتي تزعم قيادة الجيش الأمريكي أنها رمز للفروسية، فأين هي الفروسية في إلقاء شباب عزل في بوابة سد على نهر دجلة رمز الحياة العراقية المتجددة؟ فأراد الأمريكيون تحويله إلى قبر ترقد فيه كل النوايا الخيرة.

الخطوة الأولى
في الطريق بين بغداد وسامراء
العابر عند مفترق أي طريق في بغداد يخوض مغامرة لا يمكن التكهن بنتائجها، حيث تنتشر القوات الأمريكية بدورياتها المتحركة والثابتة وحيث يكون كل شيء يتحرك هدفا مشروعا للقتل من دون إنذار على وفق قواعد الاشتباك الأمريكية التي وضعها الجيش الأمريكي لنفسه وجعل منها كرة مطاطية يمكن تكييفها على وفق الحالة التي تخدم الجندي الأمريكي المأزوم حينما يكون على حق في أحوال نادرة جدا أو من دون حق أو يكون على باطل في كل الأوقات، نعم المرور عند المنعطفات قد يثير في النفس مشاعر إنسانية متباينة، فهو من جهة يصك الأبواب أمام العقل للتحرك أو التفكير السليم ويغلق العين عن رؤية ما يمر أمامها ويسد الأذن عن سماع ما هو قريب منها، بل يغلق أي إدراك عقلي ويطلق بالمقابل العاطفة الحبيسة من مكامنها، أمام الموت الحقيقة المطلقة الوحيدة في الكون، والتي على الرغم من أنها لا مناص من الوصول إليها، إلا أن الخوف منها يرتقي إلى مديات يستحيل التحكم بها مهما بلغت شجاعة الرجال، وهو من جهة أخرى طريق لا بد من سلوكه للوصول إلى الغاية التي يقصدها من يسلكه ولا خيار له إلا المجازفة أو البقاء في المنزل.


فانتظار الموت وترقب وصوله، يطغى على الخوف من الموت نفسه، لأن توقع حصوله يشل المشاعر ويعطل المدارك والتفكير السليم، وحين ينشر ملك الموت جناحيه فوق أرض يحاول كل من هناك أن يغلق بابه دونه، أو أن يفلت منه بجلده وينقذ نفسه بأية وسيلة، قليلون هم الذين يفكرون بغيرهم في تلك اللحظات، وفد يجنّد البعض قدراتهم من أجل تقديم العون للآخرين، ولكن اقتراب لحظة الوداع هي الامتحان الصعب الذي لا يجتازه إلا القلة النادرة برباطة جأش، وقد تصدر عن المرء حركات تنم عن الرغبة في المشاركة في المصير المشترك، ولكن إذا وقع الاختبار النهائي فقد يكون من المسلم به بالنسبة للكثيرين أن يفكر الإنسان بنفسه أولا مهما كانت درجة الصلة مع الغير في مشهد الرعب الأخير، في شوارع بغداد ومفترقات طرقها وكذلك الحال بالنسبة للمدن العراقية التي روّعها الاحتلال الأمريكي، كان على العراقي أن يحسب خطوته بدقة حينما ينقل قدمه في شوارعها، لأن الخطأ الأول سيكون هو الأخير.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

تعليق واحد

  1. عدوان بوقت واحد وهدف واحد هما الامريكان والفرس توحدا من اجل كسر قوة الشباب المقاوم فاستتب لهم الأمن بوجود الخونة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى