لم يكن الرابع عشر من تموزـ يوليو 1958 حدثا عابرا في العراق والمنطقة عموما، وإنما كان تحولا في مسار الأحداث في العراق، كما لم يكن معزولا عن حالة التغيير والنهوض التي شهدتها بعض الأقطار العربية.
وعلى الرغم من مرور 61 عاما على حركة تموز فإنها ما زالت تحظى باهتمام المعنيين والمؤرخين الذين اختلفوا في تقيمها وتوقيت حدوثها، وأيضا على دور قادتها في صنع هذا الحدث، واختلفوا على أهدافها واتجاهاتها وعلاقتها بما يجري في محيطها.
وعندما نتوقف عند الرابع عشر من تموز وما شهده من فوضى تسببت في مقتل أبرياء فإن الذين عاشوا لحظات ذلك اليوم لم يتوقعوا أن تتراجع أهداف تلك الحركة جراء الخلافات التي قطعت حبال الود والتفاهم بين رموزها منذ بداية انطلاقها، وحولت هذا الحلم إلى كابوس. هذا الحدث عزز من مكانة العراق ودوره كمركز استقطاب مؤثر في محيطه العربي والدولي بعد أن حقق استقلاله الناجز في فترة النهوض القومي التي كانت سمة تلك المرحلة. غير أن اختلاف الرؤى بين ثوار تموز والمصالح الشخصية والتدخلات الخارجية أدت جميعها إلى عدم تحقيق أحلام العراقيين برؤية بلادهم مستقرة مزدهرة. غير أن العواصف كانت أقوى من أن يستطيع أن يصمد هؤلاء أمامها فتحول العراق إلى ساحة للصراعات والخلافات المحلية والإقليمية أدت إلى تعطيل مسيرته، وفتحت الأبواب مشرعة للصراع بين القوى السياسية التي أدخلت العراق في الفوضى.
وكانت سمة تلك المرحلة عدم استقرار وفوضى وتصفيات بين المكونات السياسية التي كانت تهيمن على الساحة العراقية في تلك المرحلة، ما أصاب العراق بالشلل والتراجع في مسيرته.
وعندما نستعيد تلك الذكريات والأحلام التي كانت تراود أبناء العراق يصاب المرء بخيبة الأمل وشعور بالمرارة؛ لأن تلك الحركة كان يمكن أن تكون بداية لمرحلة جديدة تنقل العراق من حال إلى حال، وتحقق للعراقيين آمالهم الذين قدموا من أجلها التضحيات الجسام، وتؤسس قاعدة التوافق السياسي، وتحويل العراق إلى نموذج يحتذى به في المنطقة العربية بانفتاحه وحدويا مع تجارب مماثلة تعزز مسيرة العمل العربي المشترك، وتبعد شرور الساعين لإجهاض أي عمل وحدوي في تلك المرحلة.
والمؤلم في المشهد السياسي الذي يعيشه العراق فصولا متتالية من دون رؤية للنور في نهاية النفق رغم مرور (61) عاما على ذلك الحدث الذي هز العالم، فإن العراق ما زال يقف في نفس المربع لم يتخلص من تلك التداعيات التي تسببت في تعطيل مسيرة تموز رغم أن بدايتها كانت سياسية وتحولت بعد غزو العراق عام 2003 إلى طائفية مقيتة.
إن العراق طبقا لهذه المعطيات سيبقى ينزف من هذه الجروح الغائرة في أعماقه ما لم يتخلص ويتجاوز آثارها ويتمسك بالمشروع الوطني العابر للطائفية والعرقية، ويتمسك بثوابت الوطن وإرادته وسيادته واستقلاله الناجز بمحاربة الفساد والإقلاع عن سياسة التهميش والإقصاء والاستئثار بالسلطة، كما سعى إلى تحقيقها قادة تموز رغم حملة التشكيك التي طالت بعض رموزهم وصدقية توجهاتهم.
من هنا تكمن أهمية التقييم الموضوعي لما جرى في الرابع عشر من تموز عام 1958 برؤية واقعية غير منحازة لكي تنير الطريق للباحثين عن حقيقة ما جرى في ذلك اليوم الذي كان حدثا ما زالت تداعياته تخيم على المشهد السياسي.
791